كاتب
الفهرس
بين نعيمهم وجحيمي

حين ظنت لينا أنها خسرت مالك للأبد، جاءت الرسالة الأولى لتكسر يقينها... دفنته بيديها، لكنها تجد صوته يهمس في أذنها، وصوره تظهر في أماكن لا ينبغي أن يكون فيها. رحلة البحث عن الحقيقة تقودها إلى لعبة خطرة، حيث الأكاذيب تمتزج بالواقع، والأشباح قد لا تكون خيالات. فهل عاد مالك حقًا… أم أن هناك سرًا أكثر ظلامًا مما تتخيله؟

بين نعيمهم وجحيمي

مقدمة:

“افتحيها لما تحسي إني بطلت أحبك… أو إنكِ خسرتيني.”

عيناها علقتا على الكلمات المحفورة في السلسلة، وكأنها للمرة الأولى تدرك أن مالك لم يكن يمزح يوم كتبها. أمسكت الورقة التي وجدتها داخل العلبة الصغيرة، قرأتها ببطء، مرة بعد مرة، وكأنها تحاول استخراج صوته من بين السطور. لكنه لم يكن هنا. لن يعود.

أغمضت عينيها للحظة، أخذت نفسًا عميقًا، لكنها شعرت بأن الهواء نفسه ثقيل، كأنه يحمل أثره، صوته، وحتى غيابه.

دوى صوت إشعار من هاتفها، فانتفضت. نظرت إلى الشاشة، وتوقفت أنفاسها للحظات. اسم مالك كان هناك.

هذا مستحيل.

يدها المرتعشة سحبت الهاتف، فتحت الرسالة، قرأت الكلمات القليلة التي جمدت دمها في عروقها:

“لسه مش متأكدة؟”

الهواء انقطع من رئتيها. نظرت حولها، وكأنها تتوقع أن تجده واقفًا في زاوية الغرفة، يراقبها بابتسامته الساخرة. لكن لا أحد كان هناك… لا شيء سوى الفراغ.

ضغطت بسرعة على اسم المرسل. لا صورة، لا سجل مكالمات، فقط رقم مجهول. لكنها لم تحتج إلى أدلة… كانت تعرفه.

كتبت، أنفاسها غير مستقرة:

“مين؟”

لم يأتِ الرد فورًا. انتظرت، والدقائق بدت كساعات، ثم…

“مش ده السؤال الصح.”

“لينا.”

شهقت بصوت مسموع. هذه ليست مزحة، ليست مجرد صدفة. لا أحد يناديها بهذه الطريقة إلا هو… بهذه النبرة تحديدًا،

التي كان يستخدمها حين يريد أن يخبرها بشيء سيغير كل شيء.

نهضت من الأرض بسرعة، عقلها مشوش، خطواتها غير ثابتة. قلبها كان يدق بعنف،

ليس خوفًا فقط، بل خليطًا من كل المشاعر التي دفنتها معه.

كتبت، هذه المرة بيدين ترتجفان:

“إنتَ فين؟”

الرسالة قُرئت.
لكن لم يأتِ رد.

ثوانٍ، دقيقة، دقيقتان… لا شيء.

ثم ظهر إشعار جديد.

“مالك أرسل لكَ صورة.”

تجمدت أصابعها قبل أن تضغط على الإشعار. للحظة، فكرت في إغلاق الهاتف،

في التظاهر بأن هذا كله مجرد وهم، لكن الفضول كان أقوى.

فتحت الصورة.واختل توازنها

لم تكن صورة حديثة، لكنها لم تكن قديمة أيضًا. المكان مألوف، التفاصيل كلها محفورة في ذاكرتها،

حتى الزاوية التي التُقطت منها الصورة لم تكن عشوائية.

كان هذا مكانهما.

المقهى الصغير الذي اعتادا الجلوس فيه ليلًا، الطاولة التي شهدت أكثر اعترافاتهما صدقًا،

الكرسي الذي كان يجلس عليه دائمًا…

لكن الصورة لم تكن عادية.

كان هناك شخص يجلس في مكانه. ظهره للكاميرا، رأسه مائل قليلًا، كأنه يعرف أنه يتم تصويره لكنه لا يريد أن يُرى وجهه.

كان يرتدي معطفًا أسود… نفس المعطف الذي دفنوه به.

شعرت بأن الغرفة تدور بها، وكأن قلبها توقف عن النبض للحظات. لا… هذا مستحيل.

أرادت أن تقنع نفسها أن هذه مزحة، أن أحدهم يعبث بها، لكن عقلها لم يستجب. عقلها كان يهمس بشيء آخر… شيء أكثر رعبًا:

“ماذا لو كان هذا حقيقيًا؟”

نهضت بسرعة، ألقت هاتفها على السرير، ارتدت معطفها، وخرجت من المنزل قبل أن تعطي لنفسها فرصة للتفكير.

كان المطر يتساقط بغزارة، الشوارع شبه خالية، لكن عقلها لم يكن يركز على أي شيء سوى وجهتها الوحيدة:

المقهى.

كان الأمر مجنونًا، غير منطقي، وربما حتى خطيرًا… لكنها لم تهتم. لم يكن أمامها خيار سوى أن ترى بنفسها.

حين وصلت، توقفت على الرصيف المقابل، أنفاسها غير منتظمة، عيناها مسمرة على الطاولة التي في الصورة.

كانت فارغة.

شعرت بمزيج من الارتياح والخوف… ماذا كانت تتوقع؟

أن تجده جالسًا هناك، ينتظرها؟

لكن قبل أن تستدير، رن هاتفها.

رقم مجهول.

ردت دون تفكير، وضعت الهاتف على أذنها، وانتظرت.

صمت.

ثم…

“تأخرتِ.”

تجمدت في مكانها. كانت هذه صوته. حقيقي، واضح، قريب جدًا…

التفتت بسرعة، عيناها تبحثان بجنون، لكن الشارع كان فارغًا. لا أحد.

ارتجفت يدها، قبضت على الهاتف بقوة كأنها تحاول أن تمسك بمالك نفسه من خلاله. صوته… لم يكن تسجيلًا،

لم يكن مجرد خدعة. كان واضحًا، حقيقيًا، نابضًا بالحياة كما لو كان يقف خلفها تمامًا.

بلعت ريقها بصعوبة، أجبرت نفسها على الكلام، لكن صوتها خرج واهيًا، مرتعشًا:

“مين إنت؟”

ضحكة قصيرة، هامسة، … ضحكة تعرفها أكثر مما تعرف نفسها.

“لسه بتسألي؟”

ضغطت على أسنانها، محاولة قمع الذعر الذي بدأ يتسرب إلى أطرافها. التفتت مجددًا حولها، بحثت في الظلال،

في السيارات المتوقفة، في كل زاوية قد يختبئ فيها.

“إنتَ فين؟!” صاحت، صوتها خرج أعلى مما قصدت، أكثر يأسًا مما أرادت.

لكن لم يأتِ رد هذه المرة.

بقيت واقفة، الهاتف لا يزال مرفوعًا إلى أذنها، تنتظر… لكنها لم تسمع إلا الصمت.

ثم، صوت آخر، لكن هذه المرة لم يكن في الهاتف. كان خلفها.

“بتدوري على حد؟”

تصلبت، شعرها وقف على مؤخرة رقبتها، الدم تجمد في عروقها. الصوت كان منخفضًا، لكنه لم يكن غريبًا…

كان مألوفًا لدرجة جعلت الرعب يزحف إلى عظامها.

استدارت ببطء، وكأنها تخشى أن ترى ما لا يجب أن يُرى.

وكان هناك.

واقفًا على بُعد أمتار، تحت ضوء المصباح الخافت، ظله يمتد طويلاً على الرصيف المبتل.

عيناه كانتا عليها مباشرة. نفس العيون التي ودعتهما آخر مرة وهو داخل التابوت.

مستحيل انت ……

يتبع…

تجمدت لينا في مكانها، أنفاسها متقطعة، وعقلها يحاول استيعاب ما تراه. انعكاس الرجل في زجاج المقهى كان واضحًا…

واقعيًا لدرجة أنه أصابها بالدوار. كان يقف خلفها تمامًا، قريبًا بما يكفي لتشعر بحرارة وجوده، لكن باردًا كأنه جزء من الفراغ.

لم تجرؤ على الاستدارة فورًا. حدقت في انعكاسه… في تلك الملامح التي حفظتها يومًا عن ظهر قلب. قلبها كان يصيح باسم واحد،

بينما عقلها كان يصرخ بالرفض. لا يمكن أن يكون هو… لا يمكن أن يكون مالك.

لكنها استدارت في النهاية، ببطء وكأنها تخشى أن يتلاشى في الهواء. وعندما وقعت عيناها عليه، شعرت بأن الزمن انكمش حولها،

محاصرًا إياها في لحظة واحدة… لحظة لم تكن مستعدة لها.

-“مالك؟” نطقت اسمه بالكاد، كأنها تخشى أن يُقال بصوت مسموع فينكشف كذبة هذا اللقاء.

لم يجبها. عيناه كانتا غارقتين في ظلال الماضي، تتأملانها كأنهما تراهما لأول مرة، أو ربما… للمرة الأخيرة.

-“إنت مين؟” قالتها أخيرًا، رغم أن جزءًا منها كان يعرف الجواب مسبقًا.

ابتسم ابتسامة بالكاد لامست شفتيه، لكنه لم يتحرك. ثم، بصوت كان يحمل نبرة مألوفة حد الألم، قال:

“أنا الصفحة اللي رفضتي تقريها… السطر اللي هربتي منه… والاسم اللي دُفن قبل أوانه.”

شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، تراجعت خطوة للخلف، كأنها تحاول خلق مسافة بينها وبين الحقيقة التي بدأت تتسرب إليها ببطء.

-“مستحيل…” همست، لكنها لم تكن متأكدة إن كانت تكذب على نفسها أم عليه.

تقدم نحوها خطوة، ظله امتد تحت أضواء المقهى الباهتة، وعيناه كانتا تحاصرها، تجردها من أي محاولات للهروب.

“ليه مستحيل؟ عشان ارتحتِ للكذبة؟ عشان كان أسهل تصدقي اللي قالوه؟”

الدخان المتصاعد من فناجين القهوة حولهما تلاشى في الهواء، لكن شيئًا واحدًا ظل ثابتًا… الحقيقة التي كانت تقف أمامها،

ترتدي ملامح من ظنت أنها فقدته إلى الأبد.

تسمرت لينا في مكانها، أنفاسها متقطعة، كأنها تخشى أن تؤكد عيناها ما يراه عقلها. الرجل الذي يقف أمامها لم يكن مجرد ذكرى،

لم يكن شبحًا عابرًا في زحام المدينة… كان حقيقيًا، واقعيًا، حيًا.

لكن كيف؟

كانت قد رأت بأم عينها قبره… سمعت الخبر، شعرت بالألم، وبنت جدارًا بين ما كان وما يجب أن يكون.

ومع ذلك، ها هو هنا.

وقف دون أن يحاول لمسها، دون أن يحاول إقناعها، كأنه كان يمنحها الفرصة لاستيعاب الكارثة التي وقعت فوق رأسها.

-“ليه مستحيل؟ عشان ارتحتي للكذبة؟ عشان كان أسهل تصدقي اللي قالوه؟”

جملته أصابتها في مقتل. شيء بداخلها انتفض، وكأنه كان مكبلاً طوال هذه السنوات في سلاسل ثقيلة، وفجأة… تحرر.

-“أنا…”

الكلمات علقت في حلقها. لم تكن تعرف ما الذي يجب أن تقوله، أو كيف تتصرف. عقلها كان يحاول أن يجد تفسيرًا منطقيًا واحدًا،

لكن كل ما استطاعت الشعور به كان الرعب.

رعب من الحقيقة، من ماضيها، من نفسها.

تقدّم خطوة، لكنها لم تتراجع هذه المرة. لم يكن هناك مكان للهرب.

-“عارف، مش قادرة تصدقي. بس مفيش حاجة أصعب من إن الواحد يعيش ميت.”

كلماته حملت ثقلًا جعلها تشعر وكأن روحها تمزقت بين الحاضر والماضي. لم تستطع أن تتجاهل الاهتزاز الخفيف في صوته،

كأنه كان يهرب من شيء لا يمكن الفرار منه.

-“مالك… انت…” لم تستطع إكمال جملتها، لكن عيناها كانتا تطرحان السؤال الذي حاولت شفتاها نطقه.

ابتسم ابتسامة غامضة، ثم قال بهدوء قاتل:

-“أنا الشخص اللي دفنتوه بإيديكم، وافتكرتوا إنه مش هيقوم تاني.”

شعرت بقشعريرة تتسلل إلى عمق عظامها. شيء في صوته، في نبرته، جعل الدم في عروقها يتباطأ.

-“إنت بتهددني؟” قالتها أخيرًا، بصوت لم يكن ثابتًا كما أرادت.

-“أنا عمري ما هددتك يا لينا… بس كل حاجة ليها تمن، وأنتي أكتر واحدة عارفة ده.”

نظر إليها نظرة طويلة، كأنه كان يحاول أن يقرأ ملامحها، أن يكتشف إن كانت ما زالت هي… أم أن الزمن قد غيرها كما غيره.

ثم، قبل أن تمنحه إجابة، قبل أن تفكر حتى فيما يجب أن تفعله، استدار ومشى.

تركها واقفة وسط زحام المقهى، وسط دخان السجائر وأصوات المارة، وسط عالم شعرت فجأة أنه لم يعد مألوفًا كما كان.

وبينما كان يبتعد، أدركت شيئًا واحدًا…

مالك لم يعد نفس الشخص الذي عرفته.

راقبته وهو يبتعد، لكن خطواته لم تكن عشوائية… لم تكن خطوات رجل ضائع في المدينة، بل كانت خطوات من يعرف طريقه جيدًا،

من يخطط لشيء لا تستطيع إدراكه بعد.

كان يجب أن تتحرك، أن تلاحقه، أن تطالبه بتفسير… لكن قدميها كانتا مغللتين بالأرض، كأنها تخشى أن ما تراه مجرد وهم،

وأنها إن تحركت ستدرك الحقيقة القاسية: أن مالك لم يعد هنا.

لكن صوت النادل وهو يضع فنجان القهوة أمامها أعادها للواقع.

-“حضرتك كويسة؟” سألها النادل بنبرة قلقة.

أومأت برأسها بصمت، لكن عقلها كان يعصف بالأسئلة. هل تتبعه؟ هل تهرب؟ هل تخبر أحدًا؟ لكن من قد يصدقها؟

ومن أصلاً يستحق أن يعرف؟

استجمعت أنفاسها، وبلا تفكير، دفعت الحساب ونهضت بسرعة، خارجة من المقهى تبحث عنه بين المارة.

لكن الشارع كان فارغًا… أو هكذا ظنته في البداية.

وقفت للحظات وسط الزحام، تتلفت حولها بحثًا عن أثره. وبينما كانت تائهة وسط الوجوه، رن هاتفها.

رقم مجهول.

ترددت للحظة، لكن فضولها انتصر. وضعت الهاتف على أذنها، وصوت نبضاتها كان أعلى من أي ضوضاء حولها.

-“كنت عارف إنك هتطلعي تدوري عليَّ.”

تجمدت في مكانها. الصوت كان منخفضًا، هادئًا، لكنه اخترق روحها كخنجر.

-“مالك…؟”

ضحكة قصيرة جاءت من الطرف الآخر، لكنها لم تكن ساخرة، بل كانت أشبه بضحكة رجل يعرف أكثر مما يجب.

-“عندك أسئلة كتير، صح؟”

لم ترد.

-“إجاباتها كلها عندي، بس مش هنا… مش دلوقتي.”

ضغطت على الهاتف بيدها بقوة، محاولة أن تجد ثباتها وسط هذه العاصفة.

-“إنت عايز إيه؟” سألت بصوت حاولت أن تجعله ثابتًا، لكنه لم يكن كذلك.

-“أنا؟… أنا بس عايزكِ تفتكري.”

-“أفتكر إيه؟”

طال الصمت لثوانٍ، ثم جاء رده ببطء، كأنه كان يحفر كل حرف داخل عقلها.

-“إنتي اللي دفنتيني بإيدكِ، لينا.”

ثم… انقطع الاتصال.

ظلت لينا ممسكة بالهاتف، لكن الشاشة كانت سوداء، والصمت كان مطبقًا. أنفاسها تسارعت، ويداها بدأتا في الارتجاف. شعرت أن الهواء حولها يختفي، كأن المدينة بأكملها بدأت تضيق عليها.

“إنتي اللي دفنتيني بإيدكِ، لينا.”

الجملة لم تفارق عقلها، كأنها محفورة بداخله منذ زمن، تنتظر اللحظة المناسبة لتعود وتطاردها.

لكن هذا مستحيل… مستحيل.

أجبرت نفسها على الحركة، على الهروب من دوامة أفكارها، لكنها لم تكن تعرف إلى أين تذهب. خطواتها كانت متخبطة، تتعثر في المارة،

بينما الشوارع حولها بدت وكأنها تلتف حولها كفخ لا مفر منه.

وفي لحظة ما، وجدت نفسها أمام المرآة الكبيرة لواجهة أحد المحلات. نظرت إلى انعكاسها… ورأت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقها.

رأته.

لم يكن في انعكاسها وحدها… بل كان يقف خلفها.

التفتت بسرعة….

لا أحد.

زحام المارة مستمر، الناس يسيرون في طريقهم دون أن يلاحظوا انهيارها الداخلي. نظرت مجددًا إلى المرآة، لكن كل ما رأته كان وجهها…

شاحبًا، مذعورًا، وعيناها ممتلئتان برعب لم تفهمه بعد.

هذا ليس حقيقيًا.

أغمضت عينيها، حاولت أن تستعيد أنفاسها، أن تقنع نفسها أنها تهلوس… أن ما يحدث ليس إلا وهمًا من عقلها المنهك.

لكن عقلها لم يكن ليلعب معها بهذه القسوة.

الهاتف رنّ مجددًا.

يدها كانت متجمدة، لكن في النهاية، رفعت الهاتف ببطء… وضغطت على زر الإجابة.

هذه المرة، لم يكن هناك صوت.

مجرد أنفاس… هادئة، عميقة، كأنها تنتظر منها أن تتكلم أولًا.

“إنت مين؟” همست بالكلمة، لكنها لم تتوقع إجابة.

ثم جاء الصوت، باردًا كالموت:

“عارفة كويس أنا مين.”

كان هذا الصوت… داخل رأسها.

دويّ قهقهة خافتة تسلل عبر السماعة، لم يكن عاليًا، لكنه كان كافيًا ليصيب جسدها بالقشعريرة.

“إنتِ عارفة كويس أنا مين، وعارفة إنكِ المفروض تكوني في مكاني دلوقتي.”

قلبها خفق بعنف. من هذا؟ ولماذا يتحدث وكأنه…؟

“أنا ما قتلتكش!” صرخت، لكنها شعرت أنها تبرر لنفسها أكثر مما تخاطب الصوت.

جاء الرد هادئًا، كأنه يراقب انهيارها باستمتاع:

“لكن دفنتيني.”

ابتلعت ريقها بصعوبة، وشعرت بالدم ينسحب من وجهها. كل شيء حولها أصبح بلا معنى، بلا صوت، كأن العالم كله قد اختفى ولم يبقَ إلا هي وهذا الصوت القادم من الظلام.

فجأة، انقطع الخط.

شعرت بالدم ينبض في رأسها، كأن عقلها يرفض استيعاب ما يحدث. نظرت إلى الهاتف—لكن لم يكن هناك أي سجل للمكالمة. لا رقم مجهول، لا مكالمة فائتة… لا شيء.

وكأنها لم تحدث أبدًا.

شهقت وهي تستدير بجنون، عيناها تبحثان في الوجوه عن أي شيء مألوف، عن أي إشارة تخبرها بأنها ليست وحدها في هذا الكابوس.

لكنها كانت وحدها.

أو على الأقل… هذا ما ظنته حتى رأت تلك الورقة البيضاء الصغيرة.

كانت مطوية بعناية، موضوعة على طاولة المقهى الذي خرجت منه قبل لحظات. يدها ارتجفت وهي تلتقطها، قلبها يكاد يقفز من صدرها. فتحتها ببطء،

وعيناها تجمدتا على السطور المكتوبة بخط مألوف جدًا.

“إنتِ اللي دفنتيني، بس أنا اللي رجعت.”

في تلك اللحظة، لم تكن متأكدة إن كان قلبها ما زال ينبض أم لا.

ضاقت أنفاسها، وكأن الأوكسجين في الهواء أصبح ثقيلًا على رئتيها. الورقة كانت لا تزال بين أصابعها، لكنها لم تعد ترى الكلمات بوضوح…

كأنها تحترق داخل عقلها، تُعيد إشعال نار كانت تظن أنها انطفأت منذ زمن.

“أنا اللي رجعت.”

لكن كيف؟ كيف يمكن لشخص أن يعود بعد أن… اختفى؟

أجبرت نفسها على التنفس بعمق، ثم رفعت رأسها، تحاول استجماع شتات عقلها المبعثر. لم يكن أمامها سوى خيار واحد: معرفة الحقيقة بنفسها.

حشرت الورقة في جيبها، وأسرعت بالمغادرة. لكنها لم تكن تعرف إلى أين تذهب… أو من يجب أن تواجه.

لكن عقلها كان يعرف.

أقدامها قادتها إلى حيث لم تكن تتوقع….إلى المقبرة.

كانت السماء ملبدة بالغيوم، الهواء بارد رغم أنه ليس شتاءً، ورائحة التراب المبلل تسللت إلى أنفها مع كل خطوة. تقدمت ببطء،

حتى وصلت إلى المكان الذي لم تزره منذ ذلك اليوم.

القبر كان هناك… كما تركته تمامًا. الاسم كان منحوتًا على الرخام بوضوح، لكن يداها لمستاه كأنها تحتاج للتأكد بأنه حقيقي.

لكن ما لم يكن حقيقيًا… هو الوردة الحمراء الموضوعة عليه.

شهقت، تراجعت خطوة للخلف، عيناها تتسعان برعب. الوردة كانت طازجة، وبتلاتها لا تزال نديّة… لم تكن هنا بالأمس.

لم تكن هنا منذ دقائق!

استدارت بعنف، تنظر حولها، قلبها يخفق بجنون. المقبرة كانت خالية… لكن ذلك الإحساس، الإحساس بأن هناك من يراقبها،

لم يتركها للحظة.

ثم، وسط الصمت القاتل، سمعت الصوت.

هادئ، لكنه قريب جدًا.

-“كنت عارف إنكِ هتيجي.”

تجمدت في مكانها.

لم يكن صوت الريح، ولم يكن صدى أفكارها.

كان صوته هو.

الهواء أصبح ثقيلاً… كأن شيئًا غير مرئي يضغط على صدرها، يمنعها من التنفس بحرية. التفتت ببطء، كل خلية في جسدها تصرخ بأنها يجب أن تهرب…

لكنها لم تستطع.

على بُعد خطوات، كان يقف هناك.

لم يكن شبحًا، لم يكن طيفًا ضبابيًا… كان جسدًا حقيقيًا، بملامح واضحة، بعينين تعرفهما جيدًا.

لكنه لم يكن كما تتذكره.

وجهه كان أكثر شحوبًا، عينيه غارقتين في ظلال داكنة، لكن نظراته… كانت تحمل شيئًا جعل الرعب يزحف داخل عظامها.

لم يكن غاضبًا، لم يكن حتى سعيدًا.

كان ينظر إليها كمن عاد من الموت وليس لديه شيء ليخسره.

-“مالك…؟”

خرج اسمه منها كهمسة مرتعشة، كأنها غير متأكدة إن كان من حقها أن تنطق به بعد الآن.

ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة دافئة… كانت باردة، فارغة، كأنها مجرد قناع.

-“كنتي فاكرة إني مش راجع؟”

شهقت، خطوة للخلف، عيناها لم تفارقه… عقلها يرفض تصديق ما أمامها.

-“إنت… إنت كنت…”

-“ميت؟” قاطعها بصوت خافت، كأنه يسخر منها. “واضح إنكِ ما كنتيش تعرفيني كويس، لينا.”

حاولت أن تتكلم، أن تسأل، أن تفهم… لكن الكلمات لم تخرج. عقلها كان يصرخ بأسئلة كثيرة، لكن شفتيها بقيتا مغلقتين.

كيف؟ كيف يمكن لشخص أن يعود بعدما… بعدما دُفن؟

رفع يده ببطء، يشير إلى الوردة الحمراء على القبر.

-“كنتي هتيجي بدري ولا متأخر… أنا كنت عارف إنكِ مش هتقدري تفضلي بعيدة للأبد.”

صوتها خرج أخيرًا، لكنه كان هشًا، متكسرًا:

-“إزاي…؟”

ابتسم مجددًا، ثم خطا خطوة نحوها… لكنها لم تتراجع هذه المرة.

ظل ينظر إليها للحظات، ثم همس بشيء جعل جسدها كله يقشعر.

-“انسي السؤال ده… لأن الإجابة مش هتعجبك.”

الهواء كان مشبعًا برائحة الأرض المبللة، وصوت الريح الخافت يتسلل عبر الأشجار المصفوفة على جانبي المقابر. لكن كل ذلك تلاشى أمام الجملة التي خرجت من شفتيه.

“انسي السؤال ده… لأن الإجابة مش هتعجبك.”

لينا لم تتحرك. عقلها كان يصارع بين التصديق والإنكار، بين الخوف والرغبة في الفهم. كانت تعرف أنه ميت… رأت جثته بنفسها، لمسته وهو بارد كقطعة رخام، شيّعته إلى القبر، وقفت أمامه وهي تشعر بأن روحها دُفنت معه.

لكنه الآن يقف أمامها.

“مالك…” همست باسمه مجددًا، وكأنها تحاول أن تتأكد أنه ليس وهمًا، ليس هلوسة خلّفها إحساسها بالذنب.

اقترب خطوة أخرى، حتى لم يعد بينهما سوى مسافة كافية لتشعر بأنفاسه الباردة.

“أنا مش شبح، مش كابوس… ومش وهم في دماغك.”

كلماته كانت إجابة لما يدور داخل عقلها. وكأنّه يعرف ما تفكر فيه قبل أن تنطق به.

“لكن… مستحيل.”

رفع حاجبه، وكأنه يستمتع بحيرتها. “أيوه، مستحيل… بس رغم كده، حصل.”

وضعت يدها على فمها، تلتقط أنفاسها، تحاول استيعاب كل شيء.

لكنه لم يمنحها الفرصة.

“إنتِ خايفة؟” سألها بصوت منخفض، لكن فيه نبرة تحدٍّ واضحة.

لم ترد. كانت ترتجف، لكنها لم تكن متأكدة إن كان السبب هو الخوف… أم شيء آخر.

ابتسم، لكنها لم تكن ابتسامة مطمئنة.

“لو كنتِ خايفة… يبقى إنتِ أضعف مما كنتِ متوقع.”

هذه الكلمات اخترقت أعصابها كالسهم. شهقت بقوة، والغضب بدأ يطغى على ارتباكها. “أنا مش ضعيفة.”

اتسعت ابتسامته قليلاً، وكأنه كان ينتظر هذا الرد.

“كويس… لأن اللي جاي محتاجكِ تكوني قوية.”

نظرت إليه، حاجباها معقودان بشك. “اللي جاي…؟”

تراجع خطوة للخلف، عينيه تلمعان بشيء لم تستطع قراءته. ثم أدار ظهره لها ببطء، وكأنه يتوقع أن تتبعه دون سؤال.

لكنه توقف للحظة، وقال دون أن يلتفت:

“لو عايزة الحقيقة… امشي ورايا.”

عقلها كان يصرخ بأن تهرب، أن تبتعد قبل أن تنجرف إلى شيء لا تفهمه.

لكن قلبها؟

كان ينبض بإيقاع مختلف تمامًا.

وبدون وعي، تحركت قدمها الأولى للأمام… ثم الثانية.

ووجدت نفسها تتبعه إلى المجهول.

تراجع خطوة للخلف، عينيه تلمعان بشيء لم تستطع قراءته. ثم أدار ظهره لها ببطء، وكأنه يتوقع أن تتبعه دون سؤال.

لكنه توقف للحظة، وقال دون أن يلتفت:

“لو عايزة الحقيقة… امشي ورايا.”

عقلها كان يصرخ بأن تهرب، أن تبتعد قبل أن تنجرف إلى شيء لا تفهمه.

لكن قلبها؟

كان ينبض بإيقاع مختلف تمامًا.

وبدون وعي، تحركت قدمها الأولى للأمام… ثم الثانية.

ووجدت نفسها تتبعه إلى المجهول.

مر الوقت ببطء، خطواتها كانت مترددة، لكنها لم تتوقف. الشوارع بدت أكثر ظلمة مما تتذكرها، وكأن الليل نفسه يعاندها، يبتلع كل ضوء يمكن أن يمنحها شعورًا بالأمان.

توقفت فجأة. “مالك…” نادته بصوت مرتعش، لكنه لم يلتفت.

زادت سرعة دقات قلبها. شيء ما لم يكن على ما يرام.

“مالك، استنى.”

هذه المرة، توقف. استدار ببطء، ونظر إليها بعيون ثابتة… لكنها لم تكن عيون نفس الشخص الذي أحبته.

كان هناك شيء مختلف، شيء لم يكن موجودًا من قبل.

“إنت…” لم تكمل جملتها. كان عليها أن تسأل، أن تفهم، لكن شيئًا بداخلها حذرها من الإجابة.

اقترب منها خطوة، مما جعلها تتراجع لا إراديًا.

“لسه خايفة؟” سألها بصوت هادئ، لكن نبرته كانت تحمل شيئًا زاحفًا تحت الجلد.

“أنا مش خايفة…” كذبت، وعرفت أنه يعرف أنها تكذب.

ابتسم ابتسامة صغيرة، بالكاد ظهرت على شفتيه. “كويس، لأن اللي جاي هيحتاجكِ تكوني أقوى من كده بكتير.”

شعرت ببرودة تجتاح جسدها، لكن ليس من الهواء… بل من كلماته.

“إنت… عايز إيه؟”

نظر إليها للحظات طويلة قبل أن يجيب، وكأن إجابته تحتاج إلى اختيار دقيق.

“أنا عايزكِ تفهمي.”

“تفهم إيه؟”

اقترب أكثر، حتى لم يعد بينهما سوى سنتيمترات قليلة، همس بصوت بالكاد سمعته:

“تفهمي إن مفيش حد بيرجع من الموت… بدون تمن.”  

تجمدت الكلمات في حلقها. شعرت بقشعريرة باردة تزحف على عمودها الفقري، وكأن الهواء نفسه أصبح أثقل.

“تمن؟” همست بالكلمة وكأنها تخشى أن تنطق بها بصوت مسموع.

ابتسم ابتسامة صغيرة، لكنها لم تكن مطمئنة. لم تكن حتى بشرية.

“محدش بيرجع بدون مقابل، لينا… والسؤال الحقيقي هو: إنتِ مستعدة تعرفي إيه هو التمن؟”

حلقها جفّ تمامًا. لم تستطع الرد. لكن عينيها لم تفارقه، وكأنها تحاول اختراق قناعه، محاولة البحث عن ذلك الشخص الذي أحبته، الذي دفنته بيديها.

لكن مهما نظرت… لم تجده.

بل وجدت شيئًا آخر.

شيئًا مخيفًا.

شيئًا لم يكن يجب أن يعود.

“مالك…” همست باسمه مرة أخرى، لكنها شعرت أن الاسم نفسه لم يعد ينتمي إليه.

لم يجبها هذه المرة. فقط مدّ يده، وبحركة بطيئة، رفع طرف كمّ قميصه.

عيناها اتسعتا عندما رأت ما كان يخفيه.

على معصمه، كان هناك شيء محفور في جلده.

رمز… أو ربما علامة.

لم يكن جرحًا عاديًا.

لم يكن حتى شيئًا بشريًا.

كان نقشًا… أسود اللون، وكأنه محفور في العظام نفسها.

كانت هناك كلمات… لكنها لم تكن بأي لغة تعرفها.

“إيه ده؟” سألت، صوتها كان بالكاد يخرج.

نظر إلى العلامة لثانية، وكأنها مجرد تفصيلة تافهة. ثم رفع عينيه إليها، نظرة جعلتها تشعر أن كل شيء سيتغير من هذه اللحظة.

“ده…” توقف للحظة قبل أن يكمل:

“هو السبب اللي رجّعني.”

صمت. سمح للكلمات أن تترسخ في عقلها، أن تستوعب معناها الكامل.

ثم، بصوت أكثر هدوءًا، قال شيئًا جعل دمها يتجمد تمامًا.

“وده… هو السبب اللي هيخليكِ تفهمي إن اللي قدامك مش مالك اللي كنتِ تعرفيه.”

تراجعت خطوة للوراء، لكن قدميها لم تستطيعا حملها أكثر. شعرت أن الهواء أصبح كثيفًا حولها، كأن العالم نفسه بدأ ينكمش.

“مش… مالك؟”

نطقت الكلمات بصعوبة، وكأنها تخشى أن تتحول إلى حقيقة بمجرد قولها.

“مالك مات، صح؟” سأل بصوت بارد، لا يحمل أي عاطفة. “إنتِ شفتِ ده بنفسك.”

حاولت أن ترد، لكن عقلها كان مشوشًا، عاجزًا عن فهم ما يحدث أمامها.

“طب لو مات…” أكمل، وهو يرفع يده ليشير إلى نفسه، “إزاي أنا واقف قدامك دلوقتي؟”

ضغطت أصابعها على نفسها، محاولة أن تقنع عقلها بأن هذا ليس كابوسًا، بأنه لا يوجد تفسير منطقي لما يحدث.

“أنا مش فاهمة…” تمتمت، وكأنها تناشد أي منطق يتمسك به عقلها المرهق.

“وهتفهمي.” قالها بثقة مخيفة. ثم أضاف، وعيناه تلمعان بشيء أشبه بالسخرية: “بس كل حاجة ليها تمن، لينا. حتى الفهم.”

تراجعت أكثر، حتى اصطدم ظهرها بجدار بارد. كانت تريد أن تهرب، لكن هناك شيء أقوى منها كان يجبرها على البقاء، على الاستماع، على النظر في عينيه ومحاولة العثور على إجابة لكل الأسئلة التي ملأت رأسها.

“مالك…” همست باسمه مرة أخرى، علّها تستعيد منه أي أثر لما كان عليه.

لكن رده جاء كالصفعة:

“بطّلي تناديني بالاسم ده.”

البرودة في صوته اخترقت عظامها.

“إنت مالك، أنا عارفة إنك مالك!” صرخت، وكأنها تحاول أن تفرض هذه الحقيقة على الواقع بالقوة.

ابتسم، لكن ابتسامته لم تكن مريحة أبدًا.

“كنت مالك.” قالها ببطء، كأنه يستمتع بتعذيبها. “دلوقتي… أنا مجرد شيء راجع من الموت، علشان يكمل حاجة بدأت من زمان.”

عيناها امتلأتا بالدموع، لكن ليس من الحزن فقط… بل من الخوف أيضًا.

“تكمل إيه؟”

اقترب منها أكثر، حتى صار وجهه على بعد أنفاس منها، ثم همس بصوت بالكاد سمعته:

“اللي بدأ يوم ما مُتّ.”

تجمدت أنفاسها عند كلماته. شعرت بأن الهواء حولها أصبح أثقل، وكأن المكان نفسه يرفض وجودها.

“يوم ما مت؟!” كررت كلماته وكأنها غير قادرة على استيعابها.

ابتسم ابتسامة لم تصل إلى عينيه، تلك الابتسامة التي لم تكن تخص مالك، بل شيئًا آخر… شيئًا أكثر ظلمة.

“لينا…” نطق اسمها ببطء، وكأنه يختبر وقعه عليها. “فاكرة يومها؟ يوم ما وقفتِ هناك، وسط التراب، وسط الناس، وسط كل الأصوات اللي بتقول ‘البقاء لله’… فاكرة إحساسك ساعتها؟”

عقلها لم يكن بحاجة لأن يتذكر. الألم كان محفورًا فيها، كأنه جزء منها. لكن هناك شيء آخر، شيء أكثر رعبًا، بدأ يتسلل إلى وعيها.

“إنت… إنت كنت عارف؟”

نظر إليها بصمت، نظرة جعلتها تتمنى ألا تسمع الإجابة.

“مالك، إنت كنت واعي وقتها؟!”

أخذ نفسًا عميقًا، وكأنه يستعد ليقول شيئًا يزن أضعاف وزنه.

“ما متش لوحدي، لينا.” قالها ببطء، صوته كان خليطًا من الحزن… ومن شيء آخر لم تستطع تحديده.

رفعت يدها تغطي فمها، وكأنها تحاول منع نفسها من الصراخ.

“أنا كنت حاسس بكل حاجة.”

صمت. سمح للكلمات بأن تحترق داخلها، بأن تتحول إلى نار تلتهم آخر ذرة أمان كانت تشعر بها.

“كنت سامع صوتك، كنت حاسس بيكِ، كنت هناك معاكي… بس إنتِ مش كنتِ شايفاني.”

كانت ترتجف، ليس من البرد، ولكن من الحقيقة التي بدأت تتسلل إليها، كخيوط مظلمة تخنقها ببطء.

“كنتِ بتعيطي، بتكلمي نفسك، بتطلبي مني أرجع…” توقف للحظة، ثم نظر إليها مباشرة، عينيه كانتا أعمق من أي شيء رأته من قبل.

“وكنت سامعكِ.”

حلقها جف تمامًا، لم تستطع حتى أن تبتلع ريقها.

“مالك، إنت… إنت مش طبيعي.”

ضحك. ضحكة خافتة، لكنها لم تكن بشرية. كانت أشبه بصدى شيء قديم، شيء لا يجب أن يكون موجودًا في هذا العالم.

“وأنا عمري كنت طبيعي؟” سألها، ثم مال قليلاً للأمام، همس عند أذنها:

“بس إنتِ اللي رجعتيني، لينا. إنتِ اللي خليتِ ده يحصل.”

اتسعت عيناها، جسدها كله تصلب في مكانه.

“أنا؟!”

أومأ ببطء.

“لما طلبتي مني أرجع، لما كنتِ مستعدة تدي أي حاجة عشان تشوفيني تاني…” لمس العلامة السوداء المحفورة على معصمه،

وكأنه يذكّرها بما رأته قبل قليل.

“حد سمعكِ، لينا.”

شهقت، شعرت أن قلبها يكاد يقفز من صدرها.

“مين؟!”

نظر إليها نظرة طويلة، ثم قال:

“الحاجة اللي ما كانش المفروض أوافق عليها.”

“إنت عملت إيه؟!”

لم يرد مباشرة. فقط نظر إليها نظرة باردة، وكأنه يعرف أن الإجابة وحدها ستكسرها.

ثم همس بالكلمات التي لن تنساها أبدًا:

“أنا دفعت التمن… وأول قسط منه، هو إنتِ.”

الدم تجمد في عروقها. لم تكن بحاجة إلى أن تسأل عن معنى كلماته، فقد فهمت. فهمت فورًا، وبطريقة جعلت أنفاسها تنقطع وكأن أحدهم

وضع يده على حلقها.

“أنا؟!” نطقتها وكأنها ترفض تصديقها.

أومأ برأسه ببطء، نظراته كانت ثابتة… قاتلة. لم يكن يمزح. لم يكن يبالغ.

“مالك، إنت بتتكلم عني كأني…”

توقفت قبل أن تنطق الكلمة، لكنها شعرت أنه سمعها رغم أنها لم تقلها.

ضحية.

ابتسم.

“مش دايمًا بتبقى الضحية أضعف حد، لينا.”

تراجعت خطوة للخلف، لكن ظهرها اصطدم بالجدار. لأول مرة، شعرت بأنها محاصرة معه في هذا المكان، وكأن كل الطرق للخروج قد اختفت.

“مالك، إنت مش مالك.” قالتها بارتباك، بصوت بالكاد خرج منها. “في حاجة غلط. في حاجة مش طبيعية في اللي بيحصل.”

رفع يده، وكأنه يدرسها بعينيه، ثم قال:

“فيه حاجات لما تحصل، ماينفعش نرجع منها. ماينفعش نحاول نفهمها بعقلنا البسيط. ببساطة… لأن الحاجات دي ماكانتش من حقنا من البداية.”

“إنت بتتكلم عن إيه؟!” صرخت، كأنها تحاول أن تكسر الغموض الذي بدأ يخنقها.

نظر إليها نظرة طويلة، ثم قال بصوت منخفض:

“عن تمن الرجوع من الموت.”

شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، كما لو أن كلماته نفسها كانت لعنة.

“مالك، إنت مش المفروض تكون هنا.”

اقترب منها ببطء، خطواته بالكاد تصدر صوتًا، وكأن الأرض لا تريد أن تعترف بوجوده.

“ولا إنتِ.”

تسارعت أنفاسها، أدركت فجأة أنه لم يكن يخيفها فقط… بل كان يجعلها تشعر بأنها على حافة شيء أكبر. شيء لا يمكن الرجوع منه.

“إنتِ فاكرة إنكِ عايشة؟”

شهقت، وكأن الهواء اختفى من الغرفة.

“إيه؟!”

ابتسم مرة أخرى، ثم همس:

“إنتِ ماعرفتيش؟”

رفعت يدها إلى صدرها، محاولة أن تشعر بدقات قلبها. كان ينبض. كان موجودًا. كانت هنا، واقفة أمامه… حية.

لكن صوته تسلل إلى عقلها كسم بارد:

“مش كل اللي بيتنفس… بيبقى حي.”

الصدمة حبست أنفاسها، وكأن الهواء في الغرفة أصبح ثقيلاً. حدقت في عينيه، تبحث فيهما عن ذرة من الحقيقة التي ترفض تصديقها. لكنها لم تجد سوى ظلام عميق… وظلامه كان يتحدث بدلًا منه.

“مالك… إنت عايز تقول إيه؟”

تقدم خطوة، وأصبحت المسافة بينهما لا تُذكر. شعرت بأن برودة جسده تسري إليها، وكأن حضوره وحده كان يسرق الحرارة من الغرفة.

“مش مهم اللي عايز أقوله، لينا…” قال بصوت هادئ، لكنه كان يشبه صوت السكين وهي تنزلق ببطء عبر اللحم. “المهم اللي ناوي أعمله.”

ابتلعت ريقها بصعوبة، عقلها يرفض الفكرة التي بدأت تتشكل أمامها.

“إنت راجع… علشان تنتقم؟”

نظر إليها بصمت للحظة، ثم أمال رأسه قليلًا وكأنه يدرس ملامحها، وكأنه يحاول أن يرى إن كانت ستنهار قبل أن ينطق بالحقيقة.

“مش بس راجع…” ابتسم ببطء، عيناه تلمعان كأنهما تعكسان نيرانًا لا تراها. “أنا راجع علشانكم كلكم.”

قلبها تسارع بجنون، أحست بأن جسدها كله يرتجف رغم أنها لم تتحرك.

“كلنا؟” همست بالكلمة، رغم أنها كانت تعرف الإجابة بالفعل.

أومأ برأسه، وقال بنبرة لم تكن تحمل أي شك:

“إنتِ… وجوزك… وعيلتك…”

تجمدت الدماء في عروقها. لم يكن يتحدث فقط عن انتقام عادي. كان يتحدث عن شيء أبعد من ذلك… شيء أعمق، وأشد ظلمة.

“مالك، انت عايز تعمل إيه؟!”

ضحك ضحكة قصيرة، لكنها كانت كافية لتجعلها تتأكد… أنه لم يعد مالك الذي تعرفه.

“ناوي أعمل حاجة بسيطة…” أدار رأسه قليلًا، وكأنه يخبرها بسر قديم. “ناوي أخليكم تحسوا باللي أنا حسيته.”

حاولت أن تتحرك، أن تبتعد عنه، لكن قدميها لم تستجبا. وكأن الأرض نفسها كانت تمسك بها، ترفض أن تدعها تهرب من المصير الذي بدأ يتضح أمامها.

“مالك، اسمعني، اللي حصل زمان…”

رفع يده ليوقفها. نظر إليها نظرة جعلت كل كلمة تحاول أن تقولها تتلاشى في حلقها.

“زمان انتهى، لينا.” صوته كان حادًا كحد السكين. “دلوقتي دوركم.”

شهقت، أدركت أنها كانت تمسك بطرف ثوبها بإحكام، وكأن ذلك قد ينقذها من القادم. لكنها كانت تعرف…

لا شيء سينقذها الآن.

ضوضاء الطلقات كانت آخر حاجة سمعها قبل ما جسمه يقع على الأرض. الألم اخترق ضلوعه، كأن الرصاصة حفرت جرح مش بس في لحمه،

لكن في قلبه، في روحه. كانت عيونه بتدور في الفراغ، لكن الحاجة الوحيدة اللي قدر يلمحها وسط الدخان والصراخ… كانت هو.

صاحبه، أخوه، الشخص الوحيد اللي كان معاه للنهاية… واقف قدامه، جسده مترنّح، وعيونه بتتسع ببطء.

“مالك… امشِ.”

لكن قبل حتى ما يقدر يتحرك، قبل ما يقدر يعمل أي حاجة… الطلقة الأخيرة ضربت في صدره.

الزمن تجمّد.

شال عيونه بصعوبة، وهو شايف صاحبه بيقع قدامه، الدم سايح على الأرض تحته. حس بصراخه جوّه، لكنه مخرجش. كان عاجز، مشلول…

ميت قبل ما يموت.

“مااااات…”

الكلمة خرجت ضعيفة من بين شفايفه وهو بيشوف عيون صاحبه وهي بتطفي. ووقتها بس، الدنيا اسودّت.

[المستقبل – الحاضر]

فتحت لينا باب شقتها بخوف، قلبها مضطرب بدون سبب واضح… أو يمكن، هي كانت عارفة السبب كويس. الإحساس الملعون اللي بدأ يطاردها من يوم

ما ظهر في حياتها من جديد.

خلعت شالها ورمته على الكرسي، لكن قبل حتى ما تلتقط أنفاسها، تليفونها رن.

رقم غريب.

ترددت، ثم ضغطت على الزر.

“ألو؟”

الصمت دام ثواني… ثم جاء الصوت.

“اتطمنتي على جوزك؟”

شهقت، الدم فرّ من وجهها.

“مين؟”

ضحكة قصيرة، ثم: “لسه ماتأكدتش إنه عايش؟”

إيديها بدأت ترتعش، شعرت بالهواء يضيق حواليها.

“مالك؟ إنت… إنت فين؟”

“أنا؟” الصوت كان هادي، لكن تحته عاصفة. “في المكان اللي المفروض أكون فيه، لينا… المكان اللي رجعتله مخصوص علشان

أخلص اللي بدأناه.”

[فلاش باك – قبل سنتين]

الدخان كان مالي المكان، ريحة البارود ممتزجة برائحة الدم، والأصوات مشوشة في ودانه. حاول يفتح عينيه، لكن الجفون كانت تقيلة، كأنها مربوطة بسلاسل. حاول يحرك إيده، حس بسلاسل فعلًا… كانت مربوطة.

“أخيرًا فوقت.”

الصوت كان جديد… مش من ناسه، مش من اللي يعرفهم. حاول يركّز نظره، شاف شخص غامض واقف قدامه، ظله ممتد تحت الضوء الخافت.

“مين إنت؟”

الشخص ضحك بهدوء. “مش مهم مين أنا… المهم إنك عايش، وأعتقد إنك تعرف كويس ده معناه إيه.”

مالك مكنش فاهم… أو يمكن كان فاهم أكتر من اللازم.

اللي حصله مش صدفة.

اللي مات مكانه… هو اللي كان المفروض يموت.

والشخص اللي قدامه… كان مفتاح رجوعه من الجحيم.

رؤية مالك بقت أوضح. عيونه اتسعت وهو شايف ملامح الشخص اللي واقف قدامه، ملامح كان فاكر إنها خرجت من حياته للأبد.

“إنت؟!”

الرجل اللي قدامه ابتسم، ابتسامة باردة خلت الدم يغلي في عروقه.

“مفاجأة، مش كده؟”

مالك شد السلاسل اللي مربوطة في إيديه، عض على أسنانه وهو بيحاول يقوم، لكن الألم خبط في جسمه بقوة.

“مفاجأة؟” ضحك بسخرية، “إنت بالنسبة لي أكتر كابوس كنت بحاول أنساه.”

أبوه وقف قدامه، لبسه غالي، مظهره كله بيصرّخ فلوس ونفوذ، بس عيونه… كانت نفس العيون اللي فكرته بكل ليلة نام فيها جوعان، بكل يوم عدّى عليه وهو بيدوّر على طريقة يكمّل بيها حياته.

“يا ابني…”

“متقوليش ابني.” مالك بصله بنظرة كلها غضب. “أنا بالنسبة لك كنت مجرد حمل تقيل، كنت حاجة تخلصت منها من زمان، إيه اللي رجّعك دلوقتي؟”

أبوه زفر، مش بعصبية، لكن كأنه متوقع رد الفعل ده. قرب خطوة، ووقف عند حافة السرير اللي مالك مربوط عليه.

“مش مهم اللي فات.”

“بالنسبة لي، اللي فات هو كل حاجة.”

الهدوء عمّ المكان لثواني، وبعدين أبوه طلع حاجة من جيبه—شيك، بأرقام مالك عمره ما شافها على ورقة قبل كده. رماه على السرير جنبه.

“مش عايز اعتذارات؟ ماشي. خد الفلوس، استخدمها بالطريقة اللي تعجبك.”

مالك بص للشيك، وبعدين رفع عيونه لأبوه. “وإنت بترمي الفلوس كأنها حل لكل حاجة، مش كده؟”

“لا، الفلوس مش حل لكل حاجة.” أبوه قرب أكتر. “لكنها سلاح. وانت محتاج سلاح علشان تنتقم، صح؟”

الجملة دي سكنت جوّه، زي طلقة تانية، بس المرة دي، طلقة ضربت في حتة تانية غير جسده.

كان عايز يقول لا. كان عايز يرفض. بس الحقيقة إنه محتاج ده… محتاج القوة، محتاج النفوذ، محتاج كل حاجة تخليه يرجع ويهدم العالم اللي سرق منه كل حاجة.

رفع الشيك ببطء، قلبه بيدق بعنف. وبص لأبوه بعيون مليانة حاجتين متناقضين… الكره، والشكر.

“متفتكرش إن ده معناه إني سامحتك.”

أبوه ابتسم، ابتسامة صغيرة جدًا. “وأنا مش مستني تسامحني.”


[بعد شهر]

مالك وقف قدام المراية، التغيير في شكله واضح. الجروح بدأت تلتئم، الهالات السودا تحت عيونه خفت، بس النار في قلبه لسه بتكبر.

من شهر، كان مجرد ذكرى لشخص انتهى.

دلوقتي، هو عاصفة بتتكوّن… واللحظة اللي هتضرب فيها، هتكون مدمرة.

مسك التليفون، واتصل برقمه الوحيد المحفوظ في شريحة جديدة.

“جهز كل حاجة.”

الصوت على الطرف التاني كان هادي لكنه حاسم. “الهدف؟”

مالك بص في المراية، وصوته خرج بدون تردد.

“لينا. وجوزها. وعيلتها.”

وقف للحظة، قبل ما يضيف بصوت أشد برودة.

“وكل اللي كانوا السبب في موته.”

[قبل شهرين – المقبرة]

صوت التراب وهو بينزل فوق التابوت كان الصوت الوحيد اللي مسموع وسط الصمت. صوت بارد، ميت، زي الإحساس اللي جوّه مالك.

وقف ثابت، جسمه متشنج، وعيونه مش بتتحرك عن القبر اللي بيتقفل ببطء.

مش هو اللي جوه.

كان المفروض يبقى مكانه، كان المفروض هو اللي يندفن، بس القدر لعب لعبته القذرة…

والنتيجة؟ الشخص الوحيد اللي كان معاه، اللي كان شايفه أكتر من أخ، مات مكانه.

اللي فضل هو بس.

وهي.

لينا كانت واقفة على بعد خطوتين، وسط السواد اللي لابساه، بس بالنسباله كانت بعيدة كأن بينه وبينها حياة كاملة.

مشيت خطوة، كأنها مترددة، كأنها مش متأكدة إذا كانت المفروض تكون هنا ولا لأ.

“مالك…” صوتها كان ضعيف، متردد.

هو ما تحركش، ما بصش ليها حتى.

حاولت تكمّل. “أنا… أنا مش عارفة المفروض أقول إيه، بس—”

“اسكتي.” صوته خرج جاف، حاد زي شفرة.

هي سكتت، بس فضلت واقفة.

مرّت لحظات تقيلة، وهو لسه عينه على القبر. كان حاسس بيها، بحركتها، بتوترها، بس ما كانش قادر يبص ليها.

لينا…

الحب الوحيد في حياته.

والخيانة الوحيدة اللي دمرته.

لما اتكلم، صوته كان هادي، بس كان فيه حاجة مخيفة، حاجة لينا أكيد حست بيها.

“عارفة؟ طول عمري كنت فاكر إن الألم ليه حدود.” ابتسم، ابتسامة مش حقيقية. “بس دلوقتي… دلوقتي أنا فاهم إن مفيش حدود.”

هي ابتلعت ريقها، صوت نفسها بقى أسرع. “مالك، أنا—”

“انتي إيه؟” أخيرًا لف يبصلها، ونظراته كانت مختلفة… مش الحب اللي كان فيها زمان، مش الحزن حتى. كانت عيون حد ضايع، حد فقد كل حاجة، وحد مابقاش عنده حاجة يخسرها.

“انتي اللي خلتيني أوصل هنا؟ انتي اللي خلتيني أفقد كل حاجة؟”

هي هزت رأسها بسرعة، الدموع بتنزل من عيونها. “لا، مالك، أنا ما كانش قصدي، أنا—”

“مش مهم دلوقتي.” قطع كلامها، صوته بارد. بص لها نظرة أخيرة قبل ما يرجع عينه للقبر.

“أنا كنت ميت.” قالها ببساطة، كأنه بيقرر حقيقة علمية. “بس شكلي رجعت للحياة.”

بعدين لف، ومشي بعيد عنها.

ما بصش وراه.

ما سمعش صوتها وهي بتناديه.

ما وقفش.

لأن اللحظة دي…

كانت آخر لحظة في حياته القديمة.

وكانت بداية النار اللي هتحرق كل حاجة.

[فلاش باك – قبل 3 شهور]

الغرفة كانت مظلمة إلا من ضوء خافت قادم من الشباك. الجو خانق، الصمت تقيل، وكأن الجدران نفسها بتحبس أنفاسها.

لينا وقفت قدام المرآة، عيونها حمرا، ووشها شاحب كأن الحياة انسحبت منه.

مسحت دموعها بسرعة لما سمعت صوت الباب بيتفتح ويدخل منه رجل، خطواته كانت بطيئة، تقيلة… كأنها وزن حاجة مش طبيعية.

“فكرتِ في العرض؟” صوته كان هادي، بس فيه نبرة باردة تخلي أي حد يحس بالرعب.

لينا عضت شفايفها، بصت لنفسها في المراية للحظة قبل ما تلتفت ببطء.

“هتسيبه في حاله؟” سألت بصوت واطي، بس كان فيه نغمة تحدي مكبوت.

هو ابتسم، بس الابتسامة ما وصلت لعيونه. “طبعًا.”

لحظة صمت.

بعدين، بصت له مباشرة، عيونها مليانة بشيء بين اليأس والغضب.

“أنا موافقة.” قالتها بهدوء، صوتها ثابت بطريقة مخيفة، رغم إنها كانت بتنهار من جواها.

الرجل ابتسم ابتسامة أكبر، وكأنه متوقع ردها.

“عاقلة، دايمًا كنتِ عاقلة.”

مد إيده ناحية خدها، ولمس بشرتها بأطراف صابعه… لكنها ما تحركتش.

ما رمشتش حتى.

لأنها كانت عارفة…

إن اللحظة دي، اللحظة اللي قالت فيها الكلمة دي…

هي اللحظة اللي حكمت فيها على نفسها بالجحيم.


[الزمن الحالي]

مالك كان واقف قدام الشباك، السجارة بين صوابعه بتتحرق ببطء، والدخان بيتلاشى في الهوا.

عينه كانت باردة، متجمدة… بس في أعماقها، كان فيه حاجة مش مفهومة، حاجة مش واضحة.

افتكر نظرتها وقت الجنازة.

افتكر رعشة صوتها.

افتكر لحظة، بس للحظة واحدة، إن كان فيها حاجة… مختلفة.

بس لا.

ما ينفعش يشك.

ما ينفعش ينسى.

كل اللي كان بينه وبينها انتهى…

وكل اللي باقي هو الانتقام.

الليل كان هادي، لكنه من النوع اللي الهدوء فيه مش راحة… بل زي ما يكون العاصفة بتتجمع في الأفق، مستنية لحظة الانفجار.

مالك كان نايم في غرفة شبه مظلمة، النور الوحيد كان من شاشة صغيرة جنب السرير، بتعرض تسجيلات قديمة… تسجيلات لماضيه.

وفجأة…

صوت طرق خفيف على الباب.

فتح عيونه ببطء، جسمه لسه تعبان، لكنه بقى مستعد دايمًا لأي تهديد.

“ادخل.”

الباب اتفتح ببطء، وظهر رجل في منتصف الخمسينات، لبسه أنيق، لكن ملامحه كانت جامدة… قوية.

مالك ما تحركش، بس عيناه ضاقت وهو بيراقب الشخص اللي داخل.

“متوقعتش تيجي بنفسك.” قالها مالك ببرود، وصوته كان فيه حاجة… خليط بين الاحتقار والانتباه.

الرجل ابتسم، بس كانت ابتسامة باردة… متعودة على الصفقات، مش على العواطف.

“أنا هنا لأنك ابني، ولأن عندك هدف أنا أقدر أساعدك تحققه.”

مالك ضحك، الضحكة كانت ميتة… بدون روح.

“ابنك؟ افتكرت ده دلوقتي؟ بعد إيه؟ بعد ما رميتني في الشارع سنين؟ بعد ما بقيت شبح بيدور على مكان ينتمي له؟”

الأب قعد قدامه بهدوء، حط رجل على رجل، وسحب سيجارته وأشعلها.

“عارف إنك مش مسامحني، وده شيء مش مهم. لكن اللي يهمني دلوقتي… هو إننا عندنا عدو مشترك.”

مالك ما ردش. بس عيونه لمع فيها وميض خطر.

“جوزها.” قالها الأب ببساطة، وكأنه بيأكد الحقيقة اللي مالك ما كانش عاوز حتى يذكرها.

الهدوء استمر للحظات… ثم مالك سحب نفس عميق وقال بصوت هادي:

“أنا مش محتاج مساعدتك.”

الأب ما تحركش، لكنه ابتسم بخبث.

“بل محتاجني… ومحتاج فلوسي، ونفوذي، وكل حاجة تقدر تدمّر بيها حياتهم زي ما دمروا حياتك.”

مالك حرك عينه بعيدًا، للحظة فكر، للحظة حس إن الشيطان بيتكلم بصوته.

بس الحقيقة إن الشيطان كان موجود من الأول…

وكان جوّاه هو.

“مش هسامحك.” همس بها مالك.

الأب أومأ برأسه، كأنه متوقع ده.

“ومش طالب منك تسامحني، أنا طالب منك تنتقم.”

وفي اللحظة دي… اتخذ مالك القرار.

الانتقام مش مجرد خيار…

ده بقى مصيره.

فلاش باك – البداية المجهولة

كل حاجة بدأت من ورا شاشة…

مكان غامض على الإنترنت، منتدى خاص بالنقاشات العميقة، الأفكار السوداوية، والأسئلة اللي مفيش إجابة واضحة ليها. مكان مش سهل حد يوصله، واللي بيدخله غالبًا بيكون عنده حاجة جواه مش مفهومة، مشروخة، أو يمكن… ميتة.

مالك دخل المكان ده بالصدفة، أو يمكن كان بيدوّر على حاجة مش عارفها.

الليل كان متأخر، والجو برة هادي بطريقة بتخليه يسمع صوت أفكاره أعلى مما يحب.

فتح الموقع، وقعد يقرأ المواضيع العشوائية… حد بيحكي عن الوحدة، حد بيتكلم عن إحساس الفراغ بعد ما يخسر كل حاجة، وحد بيسأل:

“إيه الحاجة اللي لو فقدتها، مش هتكون أنت؟”

مالك قرأ السؤال ببطء… حس إنه بسيط، لكنه غريب.

فكر للحظة… وبعدين كتب رد سريع:

“لما تبقى لوحدك بزيادة، بتبدأ تفقد نفسك برضه.”

ماكانش متوقع حد يرد عليه، لكن بعد دقيقة… ظهرت رسالة خاصة.

مجهولة: “ممكن تكون الوحدة مش فقدان، يمكن هي أصلنا الحقيقي.”

شدّته الجملة. حسّها مختلفة عن كل الردود السطحية اللي كان بيشوفها دايمًا.

مالك: “يمكن، بس الإنسان مش مخلوق ليعيش لوحده.”

مجهولة: “مين قال؟ إحنا بنعيش وسط ناس كتير… وبرضه لوحدنا.”

ابتسم مالك، ابتسامة صغيرة بالكاد حس بيها.

المحادثة بدأت بكلمتين، وتحولت لساعة، وساعتين، وليالي طويلة بعدها…

كل ليلة، كانوا بيتكلموا عن حاجات مش سهلة الحكي، عن أوجاع مش مفهومة، عن الفراغ اللي بيحسوه وهم وسط الناس.

هي ما قالتش اسمها… وهو ما قالش اسمه.

بس كان بينهم رابط، رابط مش منطقي، رابط بيتكون من الكلمات، وبيتشدّ أكتر كل يوم.

بعد أسابيع من الكلام اللي بقى جزء من روتينهم، بعتت له رسالة:

“فيه حاجة عايزة أقولها لك.”

رد بسرعة، كان متحمس بطريقة غريبة.

مالك: “قولِ.”

اتأخرت في الرد… وبعدين ظهرت الرسالة:

“أنا أعرفك.”

مالك حس للحظة إن قلبه وقع.

إيه قصدها؟ إزاي؟

كتب بسرعة:

مالك: “إزاي؟ إحنا متكلمناش عن حياتنا الحقيقية قبل كده.”

ردها كان أبسط مما توقع، لكنه كان كفيل إنه يخلّيه يعيد حساباته كلها:

“أنا كنت بشوفك… من بعيد.”

ساعتها بس، أدرك إن اللي بينه وبينها مش مجرد محادثات على الإنترنت…

كان فيه حاجة أكبر، حاجة مش واضحة، لكن أكيد مش صدفة.

مالك قعد قدام الشاشة، عينه ثابتة على الجملة:

“أنا كنت بشوفك… من بعيد.”

حس للحظة إن العالم حواليه وقف… إن كل الحروف اللي كانوا بيتبادلوها قبل كده كانت بتاخد معنى مختلف تمامًا دلوقتي.

مين هي؟ وإزاي كانت بتشوفه؟

كتب بسرعة، إيده متوترة على الكيبورد:

مالك: “إزاي؟ وإمتى؟”

لكنها ما ردتش فورًا. الدقايق عدّت تقيلة كأنها ساعات. كان قادر يحس بدقات قلبه في ودانه، بإحساس غريب بين الفضول والخوف.

وأخيرًا… ظهرت رسالة جديدة.

“مش وقتها.”

اتضايق… بس في نفس الوقت، حس إنها مش بتهرب، بس مش مستعدة تحكي.

حاول يهدى، وكتب:

مالك: “طيب، لما تبقي مستعدة.”

وجت الرسالة اللي بعدها كأنها وعد.

“هتعرف في الوقت المناسب.”

الأيام اللي بعدها فضلت المحادثات بينهم مستمرة، لكنها بقت أعمق، أقرب، وأكثر حميمية من الأول. بقت حاجة مالك بيستناها كل يوم،

كأنها الهروب الوحيد من حياته اللي مش راضي عنها.

بعد فتره

مالك كان قاعد على سريره، النور الخافت للموبايل بينور وشه في الضلمة. كان بقى له فترة بيروّح من الدنيا كلها للمكان ده…

صندوق المحادثة الصغير اللي بيجمعه بشخص مجهول، لكنه أقرب ليه من ناس كتير يعرفهم في الحقيقة.

كتب:
“أنا زهقت من كل حاجة، حرفيًا. بتحسّي إنك محبوسة في حياتك؟”

جات الإجابة بسرعة، كأنها كانت مستنياه:
“طول عمري.”

ابتسم رغم تعبه… هي دايمًا بتفهمه.

كتب:
“طب وإنتِ إيه حكايتك؟”

الرد اتأخر شوية المرة دي، لكنه وصل:
“حكايتي؟ معقدة، مش هتحب تسمعها.”

كتب وهو بيحاول يخفّف الجو:
“جربي، يمكن تطلع مش أسوأ من حكايتي.”

جاوبته أخيرًا:
“بابا كان شايف إن البيت سجن، وإننا ملكه. كان بيعاقبني على أي حاجة حتى لو مش غلطتي، كنت عايشة في خوف دايم. وده خلاني أكون حد بيكره حياته، بيكره نفسه.”

وقف لحظة قبل ما يكتب، لأنه حس بحاجة غريبة… كأن الكلام ده مش مجرد كلمات ع الشاشة، كأنها حقيقية جدًا.

“طب وإنتِ دلوقتي؟”

“بحاول أكون حد تاني، بس الماضي دايمًا بيطاردني.”

حس إنها بتتكلم عن حاجة أعمق بكتير من مجرد ذكريات. كتب بعد تفكير:
“أنا كمان بحاول. أنا كنت طفل ضعيف، أبويا سابني زمان ومارجعش، مافيش حاجة في حياتي بتحصل زي ما أنا عايز. بحاول أكون قوي، بس مش عارف الطريق.”

مرّت لحظة قبل ما ترد:
“يمكن علشان الطريق اللي بتدور عليه مش موجود… يمكن لازم تخلق طريقك بنفسك.”

ابتسم لأول مرة من قلبه من فترة. كتب وهو حاسس إنه لأول مرة لقى حد بيفهمه بجد:
“بالمناسبة، أنا اسمي مالك.”

الإجابة جت هادية جدًا، لكنها دخلت جواه كأنها مألوفة… كأنها اسم كان المفروض يعرفه من زمان:
“وأنا لينا.”

ابتسم مالك وهو بيبص لكلامها… لأول مرة تحسسه إنه كان مقصّر.

“انت ليه مسألتش على اسمي في الفترة اللي فاتت؟ وليه محاولتش تعرف شكلي؟”

وقف لحظة قبل ما يكتب، كان عارف إنه ساب حاجات كتير معلّقة بينه وبينها، لكن في نفس الوقت… هو عمره ما فكر في ده، أو يمكن كان خايف يفكر.

كتب أخيرًا:
“يمكن علشان كان عندي إحساس إن الأسماء والأشكال ما بتفرقش… اللي فرق معايا كان الكلام، كان إحساسي إنك بتفهميني حتى من غير ما تسأليني.”

جات إجابة سريعة، كأنها كانت مستنياه يقول حاجة زي كده:
“بس أنا سألت عنك، تخيلت شكلك مليون مرة، حاولت أفهم انت مين، وكنت مستنية في يوم إنك تسألني أنا مين.”

مالك حاس إنه لأول مرة من ساعة ما بدأوا كلام، هي مش بس بتشاركه أفكارها… هي بتحاسبه. وكأنها بتقوله: ليه ما كنتش فضولي كفاية علشاني؟

كتب بعد تردد:
“طب كنتِ متخيّلاني إزاي؟”

ردّت بسرعة:
“حد في عيون تعبانة، بس مش من السهر… من التفكير. حد بيحاول يكون قوي، بس مش قادر يخدع نفسه. وحد… محتاج حد يفهمه.”

ضحك بصوت مسموع، رغم إن الكلام أصابه في مقتل. كتب وهو بيحاول يخفف الجو:
“طب لو عرفت شكلي وطلع مختلف عن اللي في خيالك، هتبطّلي تكلّمني؟”

الإجابة جت مباشرة، أقوى مما توقع:
“أنا ما كنتش بتكلم مع شكلك من الأول… كنت بتكلم معك إنت.”

ابتسم مالك وهو بيقرأ كلماتها… حس إن الجملة دي تحديدًا لمست حاجة جواه كان دايمًا بيحاول يهرب منها. هو نفسه ما كانش عارف هو بيهرب من إيه بالظبط… من الناس؟ من الماضي؟ ولا من نفسه؟

كتب وهو بيحاول يخفي اضطرابه:
“وأنا كنت بتكلم مع إحساس… مع صوت كنت بحسه قريب مني أكتر من أي حد في حياتي.”

المحادثة سكتت لحظة، لكنه شاف إن لينا بتكتب… وبعد ثواني جت الرسالة:
“وأنا كمان حسيت كده، بس الخوف دايمًا جزء مني… حتى وإحنا مجرد كلمات ع الشاشة، أنا خايفة.”

ضيق عيونه وهو بيقرأ الجملة… خوف؟ من إيه؟

كتب بحذر:
“خايفة مني؟”

“خايفة من اللي ممكن يحصل لو الكلام ده بقى حقيقة.”

كان المفروض الجملة دي تكون عادية، مجرد تفكير منطقي لأي شخص بيتكلم مع حد مجهول… لكن مالك حس إنها أعمق من كده. كأنها عارفة إن علاقتهم مش هتكون حاجة عادية، كأنها حاسة إنهم لو خرجوا برّه الشاشة… حاجات كتير هتتغير.

قرر يغامر وسأل:
“طب لو أنا قلتلك إني عايز أعرفك برّه هنا؟”

التلات نقاط اللي بتدل إنها بتكتب فضلت ظاهرة شوية… بعدين اختفت من غير ما تبعت حاجة.

فضل مستني، دقايق طويلة عدت، لكنه كان عارف إنها لسه هنا، عارفة إنه مستني ردّها.

وأخيرًا، ظهر قدامه سطر واحد بس:
“مش هتعجبك الحقيقة، مالك.”

قرأ مالك كلماتها أكتر من مرة، وكأن عقله بيرفض يستوعبها. “مش هتعجبك الحقيقة”؟ يعني إيه؟ كانت بتخدعه طول الفترة اللي فاتت؟ ولا هي مجرد خوف من حاجة مش واضحة؟

حاول يكتب ردّ، لكن لأول مرة حس إنه مش عارف يقول إيه… التردد كان بيقتله، وفي نفس الوقت، فيه إحساس غريب بيقوله إنه لو استسلم دلوقتي، كل حاجة بينهم هتضيع.

كتب أخيرًا:
“جربي تحكيلي الأول… بعدين احكمي إن كانت الحقيقة هتعجبني ولا لأ.”

المرة دي، ما كانش فيه تلات نقط، ما كانش فيه انتظار… كان فيه صمت، طويل جدًا، لدرجة إنه افتكر إنها خرجت من المحادثة، لكنه فجأة شاف إشعار برسالة جديدة:

“أنا مش زي ما أنت متخيل، مالك. حياتي معقدة، ومليانة مشاكل… ولو قربت أكتر، هتتأذي.”

ابتسم مالك بسخرية، كأنها ما تعرفش إن الأذى هو الحاجة الوحيدة اللي متعود عليها.

كتب بدون تفكير:
“وانتِ فاكرة إن حياتي سهلة؟ ولا إن أنا شخص طبيعي؟ كلنا عندنا حاجات بنخبيها، بس ده مش سبب يمنعنا نكمّل.”

المرة دي، ردّت بسرعة:
“مالك، أنت مش فاهم… أنا مش حرة. أنا عايشة حياة مفروضة عليّا، وحاجات كتير مش بإيدي. والناس اللي حواليا… مش هيسمحوا لي أكون مع حد زيّك.”

حس وكأن ضربة غير مرئية وقعت على صدره. “حد زيّك”؟ يعني إيه؟

كتب وهو بيحاول يخفي إحساسه بالرفض:
“زيي إزاي؟”

جت الإجابة أسرع مما توقع:
“مش من عالمي.”

كانت الجملة دي كفيلة إنها تشعل كل غضبه القديم، كل إحساسه بإنه أقل، بإنه دايمًا على الهامش. لكن بدل ما يرد بانفعال،

خد نفس عميق وكتب بهدوء خطير:
“طيب… ما تخلي العالم ده يختفي للحظة، وقوليلي بصدق… إنتِ كنتِ حقيقيّة معايا؟ ولا كنتِ بتمثّلي؟”

مرت لحظات، وبعدين جت الإجابة اللي قلبت كيانه:
“أنا معاك… كنت أكتر نسخة حقيقية مني.”

سند مالك راسه على الحيطة، وغمض عيونه، وهو بيحس لأول مرة إنه داخل حرب مش عارف هيكسبها ولا هيخسرها…

لكن الأكيد إنه مش هيرجع منها زي ما كان.

ظل مالك محدّقًا في الشاشة، كأن الكلمات مكتوبة بنار، محفورة جوّه. “أنا معاك… كنت أكتر نسخة حقيقية مني.”

لكن الحقيقة دي، رغم جمالها، كانت مؤلمة. كانت زي وعد مستحيل التحقيق.

كتب بهدوء مصطنع:
*“بس ده مش كفاية، صح؟”

اتأخر ردّها شوية، لكنه جِه أقسى مما تخيّل:
“في عوالم تانية، يمكن كان كفاية… بس مش في عالمنا.”

هنا، بدأ الإحساس الحقيقي بالهوة اللي بينهم يبان أكتر… المسافات مش مجرد شوارع ومدن، المسافات كانت أعمق من كده، كانت حياة كاملة مبنية على قواعد مش هو اللي حطّها، ولا هي حتى قادرة تكسرها.

هي كانت بنت عالم مرتب، مُترف، محكوم بقوانين صارمة، كل خطوة محسوبة، وكل قرار بيترتب عليه مصير. اتربّت في مدارس دولية، لغتها الأولى مش عربي، بتشوف الفلوس كأنها جزء من الحياة مش حاجة صعبة المنال. عندها بيت واسع، وسفريات سنوية لأماكن هو حتى مش متأكد إنه يعرف ينطق أسماءها صح.

وهو؟ كان في الناحية التانية تمامًا… كبر في بيت قديم، جدرانه أضعف من إنه تخبّي أسراره. درس في مدارس حكومية، مع مدرسين بيصرخوا أكتر ما بيشرحوا، وكان عارف كويس طعم إنك تستنى لبُكرة علشان تجيب حاجة نفسك فيها.

هي كان عندها مستقبل مخطط ليها من لحظة ولادتها… وهو، كان بيجري ورا أي فرصة تظهر، وكأن حياته سلسلة من الهروب المستمر من الفشل.

فرق السما والأرض… ولو أي حد شافهم، كان مستحيل يتخيل إنهم ممكن يتكلموا، ناهيك عن إن يكون بينهم حاجة أقرب للحب.

لكنه رغم كل ده، كان عارف حاجة واحدة: الحواجز الحقيقية مش الظروف، الحواجز الحقيقية هي اللي جوّه الإنسان.

كتب أخيرًا:
*“طيب… انتي نفسك في عالم تاني؟”

جت الإجابة بعد تردد واضح:
“نفسي، بس مش قادرة.”

ابتسم بسخرية. المشكلة دايمًا مش في الأحلام، المشكلة في تمن تحقيقها.

كتب وهو بيحس إنه بيقف على حافة هاوية:
“يبقى إحنا هنكون إما أعظم حاجة حصلت… أو أكبر غلطة عملناها.”

وهو مش متأكد أي نهاية مستنياه.

مرت لحظات من الصمت، كأنها اختبار غير معلن. كان عارف إن الجملة اللي كتبها مش مجرد كلام، كانت أشبه بتحدّي… ولو هي فهمت ده، فمعناه إنها قدّامه طريقين: يا إما تكمّل، يا إما تهرب.

وأخيرًا، ظهرت رسالتها على الشاشة:

*“طب وإنت شايفنا إيه؟”

سؤال بسيط، لكنه كان أعمق مما يبدو. السؤال اللي تحت منه ألف معنى… هل كان شايفها مجرد لحظة في حياته؟ تجربة؟ ولا حاجة أكبر بكتير؟

مسح الجملة اللي كان هيكتبها، وبدلها بجملة تانية:
“شايفنا احتمالات.”

*“يعني إيه؟”

“يعني إحنا زي شخصين واقفين على طرفي جسر مكسور… يا إما نلاقي طريق نعبر بيه، يا إما نقف مكاننا ونتفرج على المسافة اللي بينا وهي تكبر.”

كان مستني ردّها بقلق مش مفهوم… ومرّت دقيقة، دقيقتين، خمس دقايق، من غير ما تكتب حاجة. قلبه بدأ يخبط جوّه… هل قال حاجة غلط؟ هل استعجل؟

ثم ظهرت رسالتها:

“بس الجسر مش دايمًا بيتصلح… أوقات، لما بتجري عليه، بيوقعك بدل ما ينقذك.”

ابتسم رغم كل حاجة. هي كانت حذرة، خايفة، لكنه كان شايف في كلامها حاجة تانية… لو فعلاً ما كانش ليهم فرصة، ليه لسه بتتكلم؟ ليه لسه بتحاول تحط مبررات بدل ما تقفل الحوار؟

كتب ببطء، وكأنه بيحاول يختبر نفسه أكتر مما بيختبرها:

*“طب لو وقعنا؟”

“هنكسر.”

*“طب ولو ما وقعناش؟”

طال الصمت تاني… المرة دي كان أطول، وكأنها بتقلب بين إحساسها وعقلها. وأخيرًا، ظهرت كلمتها الوحيدة على الشاشة:

“ماعرفش.”

كان ده أول اعتراف حقيقي، مش خوف، مش هروب… مجرد حقيقة بسيطة: هما مايعرفوش.

لكن هو كان عارف حاجة واحدة… أحيانًا، المجهول مش لازم يكون مُخيف، أحيانًا، هو الحاجة الوحيدة اللي تستحق المخاطرة.

مرت الأيام، وبدأت الرسائل تتحوّل لشيء أكبر من مجرد محادثات عابرة. كانت بتتكلم معاه عن حاجات عمرها ما قالتها لحد، وهو كان بيحس لأول مرة إنه مفهوم… حد سامعه بجد، من غير أحكام، من غير ما يحس إنه محتاج يثبت أي حاجة.

في ليلة طويلة من المحادثة، بعد ما حكالها عن كل اللي تعب قلبه، عن الإحساس بالوحدة حتى وسط الناس، عن كونه دايمًا الشخص اللي بيتعامل كأنه مفروض يكون قوي، حتى لما جوّاه كان منهار…

قالت له: “وعدني إنك متتخلاش عني أبدًا.”

كأنه سمع صوتها وهي بتقولها، رغم إنها مجرد كلمات مكتوبة. حس بجدية الموقف، وكأنها ماسكة في الكلمة دي كأنها آخر حاجة ممكن تحميها من كل اللي بيحصل في حياتها.

كتب لها: “أنا مش هتخلى عنك، بس إنتِ كمان متختفيش.”

*“مش هختفي، بس لو اختفيت غصب عني، هتدور عليَّ؟”

“لحد آخر نفس فيَّ.”

كان كل وعد بينهم بيتسجّل جوّه، بيتبني زي أساس لجدار غير مرئي بينهم، جدار ضد الزمن، ضد الظروف، ضد أي حد ممكن يفكر يقسمهم.

وبين كل وعد، كانت بتظهر الفروق بينهم أكتر وأكتر… كانت عايشة في عالم، وهو في عالم تاني، هي وسط ناس حياتها محسوبة بدقة، بتقابل ناس من مستوى معين، محدش فيهم حتى يتخيل إنه ممكن يبص لحد زيّه. وهو؟ كان شايف الدنيا بشكل أبسط، شايف الحياة كلها كفاح، شغل، محاولة تثبت نفسك وسط كل اللي بيحاولوا يدفنوك بالحكم المسبق.

بس مع كل فرق بينهم، كانوا بيلاقوا حاجة تربطهم أكتر. كانوا زي نغمتين مختلفتين، بس مع بعض بيخلقوا لحن مش شبه أي حاجة تانية.

في ليلة تانية، بعد يوم صعب ليها، بعد مشاكل في بيتها ودموع حاولت تخبيها عن الكل، بعتت له:

*“لو قلت لك تعالي خطفني، هتعملها؟”

ضحك رغم جدية السؤال، وردّ: *“طب وإحنا في فيلم هندي؟”

“أوقات بتمنى لو كانت حياتي فيلم، كان هيبقى عندي نهاية سعيدة على الأقل.”

هنا، لأول مرة، حس بالخوف… مش عليها بس، لكن على نفسه كمان. لأنه بدأ يحس إنه مش قادر يبعد، حتى لو كان عارف إن الطريق اللي هم ماشيين فيه مفيهوش أي ضمانات.

لكن كان متأكد من حاجة واحدة… مش مهم قد إيه الدنيا هتبقى صعبة، مش مهم قد إيه الفرق بين عالمه وعالمها، هو مش ناوي يسيبها تواجه كل ده لوحدها.

المستقبل – عودة من العدم

مالك وقف قدام المبنى العالي في التجمع، نفس المكان اللي كان واقف فيه من سنتين، بس المرة دي… كان راجع مختلف.

نفس الليالي اللي نام فيها وهو بيدعي إنه ينسى، رجع شايلها كلها على ضهره. نفس النار اللي حاول يطفيها، كانت ولّعت فيه أكتر. واللحظة دي… اللحظة اللي مستنيها من سنتين، أخيرًا وصلت.

كان لابس بدلة سودا، مش لأنه بيحب الرسميات، بس لأنه بقى فاهم إن الشراسة ساعات مش بتبان في الشكل، لكن في الهالة اللي بتسيبها لما تدخل مكان. وساب عربيته على بعد شارعين، عارف إن وجوده هنا مش هيمر مرور الكرام.

“خلاص، جت اللحظة اللي هسترد فيها حقي.”

مالك وقف قدام مكتب الاستقبال في الشركة، المكان اللي زمان دخله بوجه مليان أمل، وخرج منه مكسور ومهان. بس النهارده؟ النهارده

هو اللي جاي يحكم.

الموظفة رفعت عينيها من الشاشة وقالت باحترافية:
 “حضرتك معادك مع مين؟”

ابتسم ابتسامة باردة، وهو بيرفع عينه للكاميرات اللي أكيد دلوقتي بتنقل صورته لمكتب فوق. صوت رجل الأمن اللي بيتكلم في اللاسلكي

وصله بوضوح:
 “في حد واقف بيقول اسمه مالك… أي تعليمات؟”

بص للموظفة وقال بهدوء:
 “أنا مش محتاج معاد… بس قولي له إن اللعب بدأ.”

سحب الكارت البنكي البلاتيني من جيبه، مرره على البوابة الإلكترونية، وفتح الباب قدامه بسهولة. قبل ما الحراس يتحركوا، كان خلاص داخل المصعد،

والباب اتقفل وراه.

خرج مالك من المصعد، عيونه ثابتة، كل خطوة بياخدها في الممر الفخم للشركة كانت محملة بثقل السنين اللي فاتت.

وصل لباب المكتب الرئيسي، فتحه بثبات، ودخل بدون استئذان.

داخل المكتب، المدير التنفيذي – نفس الشخص اللي كان السبب في إهانته وكسره زمان – كان قاعد ورا مكتبه، بيقلب في ورق وتقارير، لكن أول ما سمع صوت الباب وهو بيتفتح بقوة، رفع عينه بضيق.

نظر لمالك للحظات… ملامحه تغيرت، الوقار، السلطة، الهيبة اللي في طريقته، لبسه الفاخر… كل حاجة كانت مختلفة. لكن المدير ضحك بسخرية، كأن المنظر ده مستحيل يكون حقيقي.

 “إيه ده؟ مش كنت شحات على باب شركتي من سنتين؟ فجأة بقت معاك فلوس؟”

مالك بص له ببرود، اتحرك ناحية الطاولة، وحط ورقة رسمية قدامه.

 “أنا مش جاي أطلب، أنا جاي أستلم… الإدارة، السلطة، والمكتب ده.”

الراجل كشر، مسك الورقة، عيونه مش مصدقة وهو بيقرا التفاصيل القانونية… كان مكتوب فيها بشكل واضح: مالك رسمياً أصبح أكبر مساهم في الشركة، ومالكها الفعلي.

رجع ببصره لمالك، النبرة الساخرة اختفت، وحل محلها توتر واضح:
 “إنت عملت إيه؟”

مالك ابتسم بهدوء:
 “أنا ببساطة… اشتريت كل حاجة.”

قبل أسبوع – فلاش باك

كان مالك قاعد في جناحه الفخم في فندق على النيل، قدامه ثلاثة رجال أعمال كبار، أكبر المساهمين في شركة عائلة لينا. قدام كل واحد منهم ملف عقد، وعروض أرقام مستحيل تتساب.

أحدهم، مستثمر عقاري مشهور، بص لمالك وقال بريبة:
 “إنت عارف إننا بنتكلم عن ملايين الدولارات؟ أنت ناوي تقلب عليهم الطاولة ولا إيه؟”

مالك ضحك ضحكة خفيفة:
 “الطاولة اتقلبت من زمان… أنا بس جيت أحط اللمسة الأخيرة.”

واحد تاني سأل بجدية:
 “ولو رفضنا؟”

مالك رفع عينه بثقة:
 “هتشوفوا أسهمكم بتنهار مع خطتي الجاية… قراري النهائي إن الشركة دي لازم تقع، بس السؤال الوحيد: هتقعوا معايا؟ ولا هتاخدوا الفلوس وتختفوا بكرامتكم؟”

لحظة صمت طويلة… ثم بدأ كل واحد يوقع، واحد ورا التاني، لحد ما خلصوا كل العقود.

في اللحظة دي، مالك بقى المتحكم الفعلي في الشركة، حتى لو كان الاسم الرسمي حاجة تانية.

العودة للحاضر

المدير التنفيذي كان لسه في حالة صدمة، صوته نزل درجة وهو بيحاول يستوعب:
 “إنت اشتريت أسهمهم؟ كله؟”

مالك جلس على الكرسي المقابل ليه، وبص له بنظرة مليانة انتصار:
 “أيوة… والجميل بقا، إن مفيش حد بلغك، صح؟”

المدير التنفيذي كان مش مصدق اللي بيحصل، مسك التليفون بسرعة، وداس على رقم محفوظ عنده من سنين. كان صوته متوتر وهو بيكلم الشخص الوحيد اللي ممكن يلاقي عنده مخرج:

 “أستاذ سيد… في كارثة!”

على الجهة التانية، كان سيد العدوي في مكتبه الواسع في فيلته الفاخرة، ماسك كوب القهوة التركي بتاعه، وبيبص من الشرفة على الجنينة الواسعة. رفع حاجبه بضيق وهو بيسمع الذعر في صوت مدير شركته:

 “كارثة إيه؟ اتكلم بسرعة!”

 “مالك… مالك رجع!”

سيد العدوي عقد حواجبه، الاسم ده مألوف… لكنه ما كانش متوقع يسمعه تاني بعد كل اللي حصل. حاول يسيطر على انفعاله وسأل ببرود:

 “رجع إزاي؟ وإيه دخله في شغلنا؟”

المدير بلع ريقه، وبص لمالك اللي كان قاعد قدامه بمنتهى الهدوء، وكأنه بيتسلى باللي بيحصل.

 “مش بس رجع… ده استحوذ على نص الشركة! أنا حرفيًا دلوقتي بكلمك من مكتبي، بس هو اللي قاعد على الكرسي الكبير!”

لحظة صمت طويلة… سيد العدوي ساب الكوب من إيده ببطء، ونهض من كرسيه. صوته نزل درجة، لكن كان واضح فيه الغضب:

 “انت بتقول إيه؟ إزاي الواد ده يبقى صاحب نص الشركة؟”

 “اتفق مع المستثمرين الكبار واشترى أسهمهم… بمبالغ خرافية! محدش فينا حتى كان عارف إنه موجود في الصورة!”

سيد قبض إيده بغضب، مش بس لأن مالك رجع، لكن لأنه رجع بالشكل ده… مش شحات زي زمان، مش مجرد واحد بيتسول قبولهم… لا،

رجع وهو ماسك زمام الأمور، وداخل ياخد اللي هو عايزه.

 “خليك معايا…”

قفل المكالمة، وداس بسرعة على رقم تاني… رقم شخص كان عنده إجابات لكل حاجة بتحصل في البلد دي. لكن قبل ما حد يرد عليه،

كان في رسالة وصلته على الموبايل.

فتحها بسرعة…

“مستعد للجولة الجديدة يا أستاذ سيد؟ المرة دي… إحنا اللي هنحط القواعد.”

المرسل: مالك.

سيد العدوي قفل الموبايل ببطء، وعينيه كانت متعلقة برسالة مالك. الشعور اللي غلى في دمه ما كانش مجرد غضب… كان إحساس بالخطر،

لأول مرة من سنين، حس إن الأرض مش ثابتة تحته.

اتجه بسرعة ناحية الدولاب الخشبي الضخم في مكتبه، فتح درج مخفي، وسحب منه علبة سجائر فاخرة. ولّع سيجارة، وسحب نفس عميق، ئ

وهو بيحاول يهدّي نفسه.

“مالك… أنت فاكر نفسك مين؟”

كان بيتكلم بصوت منخفض، لكن الشرار في عينيه بيقول إنه مش هيسكت.

اتجه ناحية المرايا اللي في المكتب، ووقف قدامها وهو بيتأمل انعكاسه. رجل ناجح، قوي، عنده نفوذ وفلوس…

مستحيل واحد زي مالك يقلب الطاولة عليه.

رفع الموبايل تاني، واتصل بمدير مكتبه.

 “جمعلي مجلس الإدارة فورًا… ومش عايز أي أعذار!”

المدير كان متردد، لكن نبرة سيد ما كانتش قابلة للنقاش.

 “حاضر يا فندم…”

قفل المكالمة، واستدار ناحية الشباك، وعينيه مليانة أفكار.

في مقر الشركة…

مالك كان قاعد في المكتب الكبير، اللي كان من سنتين شاهد على أكبر إذلال في حياته. بس دلوقتي، هو اللي ماسك زمام الأمور.

قدامه، المدير التنفيذي كان واقف مرتبك، مش عارف يتكلم ولا يتصرف.

مالك بص له بنظرة باردة، وقال بهدوء:

 “مش هقولك اقعد، لأن المرة اللي فاتت لما كنت هنا، أنت وأستاذ سيد كنتم واقفين، وكنتوا بتضحكوا وإنتوا بتطردوني… فاكر؟”

المدير بلع ريقه، وحاول يرد بصوت مهزوز:

“أستاذ مالك… أنا كنت… كنت عبد المأمور…”

ضحكة صغيرة طلعت من مالك، وضرب بإيده على المكتب:

 “عبد المأمور؟ يعني سيد العدوي أمرك تهيني أنا وأمي قدام كل الموظفين؟ أمرك إنك تخليني أخرج من هنا مطرود زي الكلاب؟”

المدير كان خلاص على وشك الانهيار.

مالك اتكأ لقدام، وهمس بصوت منخفض لكن حاد:

 “المرة دي، أنا المأمور… وأنا عندي قواعد جديدة للعبة.”

المدير هز رأسه بسرعة:

 “أنا… أنا تحت أمرك!”

مالك ابتسم بسخرية، ورجع مسنود على الكرسي.

 “حلو… دلوقتي، احجز لي اجتماع مع مجلس الإدارة… وبعدها، بلّغ كل الموظفين إن الشركة في مرحلة انتقالية، واللي عنده اعتراض…

الباب مفتوح!”

المدير هز رأسه وخرج بسرعة، وهو مش قادر يصدق اللي بيحصل.

في نفس الوقت، لينا كانت في بيتها…

كانت قاعدة في أوضتها، وبتبص على صورتها في المرايا.

وشها كان شاحب، عيونها فقدت لمعتها…

في اللحظة دي، حسّت بشيء بارد بيجري في عروقها…

مالك رجع.

لكن السؤال اللي كان بيقتلها…

رجع علشانها؟ ولا علشان يدمر كل شيء؟

يتبع….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

متابعة أهداف الكتابة
اكتمال الفصول
0%
5 10
الكلمات المكتوبة
0%
10247 14000

الوقت المتبقي للانتهاء

Days
Hr
Min
Sec
لقد انتهى الوقت المخصص لإكمال الكتاب

منصة الكتابة

سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.

نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.