فلاش باك – البداية المجهولة
كل حاجة بدأت من ورا شاشة…
مكان غامض على الإنترنت، منتدى خاص بالنقاشات العميقة، الأفكار السوداوية، والأسئلة اللي مفيش إجابة واضحة ليها. مكان مش سهل حد يوصله، واللي بيدخله غالبًا بيكون عنده حاجة جواه مش مفهومة، مشروخة، أو يمكن… ميتة.
مالك دخل المكان ده بالصدفة، أو يمكن كان بيدوّر على حاجة مش عارفها.
الليل كان متأخر، والجو برة هادي بطريقة بتخليه يسمع صوت أفكاره أعلى مما يحب.
فتح الموقع، وقعد يقرأ المواضيع العشوائية… حد بيحكي عن الوحدة، حد بيتكلم عن إحساس الفراغ بعد ما يخسر كل حاجة، وحد بيسأل:
“إيه الحاجة اللي لو فقدتها، مش هتكون أنت؟”
مالك قرأ السؤال ببطء… حس إنه بسيط، لكنه غريب.
فكر للحظة… وبعدين كتب رد سريع:
“لما تبقى لوحدك بزيادة، بتبدأ تفقد نفسك برضه.”
ماكانش متوقع حد يرد عليه، لكن بعد دقيقة… ظهرت رسالة خاصة.
مجهولة: “ممكن تكون الوحدة مش فقدان، يمكن هي أصلنا الحقيقي.”
شدّته الجملة. حسّها مختلفة عن كل الردود السطحية اللي كان بيشوفها دايمًا.
مالك: “يمكن، بس الإنسان مش مخلوق ليعيش لوحده.”
مجهولة: “مين قال؟ إحنا بنعيش وسط ناس كتير… وبرضه لوحدنا.”
ابتسم مالك، ابتسامة صغيرة بالكاد حس بيها.
المحادثة بدأت بكلمتين، وتحولت لساعة، وساعتين، وليالي طويلة بعدها…
كل ليلة، كانوا بيتكلموا عن حاجات مش سهلة الحكي، عن أوجاع مش مفهومة، عن الفراغ اللي بيحسوه وهم وسط الناس.
هي ما قالتش اسمها… وهو ما قالش اسمه.
بس كان بينهم رابط، رابط مش منطقي، رابط بيتكون من الكلمات، وبيتشدّ أكتر كل يوم.
بعد أسابيع من الكلام اللي بقى جزء من روتينهم، بعتت له رسالة:
“فيه حاجة عايزة أقولها لك.”
رد بسرعة، كان متحمس بطريقة غريبة.
مالك: “قولِ.”
اتأخرت في الرد… وبعدين ظهرت الرسالة:
“أنا أعرفك.”
مالك حس للحظة إن قلبه وقع.
إيه قصدها؟ إزاي؟
كتب بسرعة:
مالك: “إزاي؟ إحنا متكلمناش عن حياتنا الحقيقية قبل كده.”
ردها كان أبسط مما توقع، لكنه كان كفيل إنه يخلّيه يعيد حساباته كلها:
“أنا كنت بشوفك… من بعيد.”
ساعتها بس، أدرك إن اللي بينه وبينها مش مجرد محادثات على الإنترنت…
كان فيه حاجة أكبر، حاجة مش واضحة، لكن أكيد مش صدفة.
مالك قعد قدام الشاشة، عينه ثابتة على الجملة:
“أنا كنت بشوفك… من بعيد.”
حس للحظة إن العالم حواليه وقف… إن كل الحروف اللي كانوا بيتبادلوها قبل كده كانت بتاخد معنى مختلف تمامًا دلوقتي.
مين هي؟ وإزاي كانت بتشوفه؟
كتب بسرعة، إيده متوترة على الكيبورد:
مالك: “إزاي؟ وإمتى؟”
لكنها ما ردتش فورًا. الدقايق عدّت تقيلة كأنها ساعات. كان قادر يحس بدقات قلبه في ودانه، بإحساس غريب بين الفضول والخوف.
وأخيرًا… ظهرت رسالة جديدة.
“مش وقتها.”
اتضايق… بس في نفس الوقت، حس إنها مش بتهرب، بس مش مستعدة تحكي.
حاول يهدى، وكتب:
مالك: “طيب، لما تبقي مستعدة.”
وجت الرسالة اللي بعدها كأنها وعد.
“هتعرف في الوقت المناسب.”
الأيام اللي بعدها فضلت المحادثات بينهم مستمرة، لكنها بقت أعمق، أقرب، وأكثر حميمية من الأول. بقت حاجة مالك بيستناها كل يوم،
كأنها الهروب الوحيد من حياته اللي مش راضي عنها.
بعد فتره
مالك كان قاعد على سريره، النور الخافت للموبايل بينور وشه في الضلمة. كان بقى له فترة بيروّح من الدنيا كلها للمكان ده…
صندوق المحادثة الصغير اللي بيجمعه بشخص مجهول، لكنه أقرب ليه من ناس كتير يعرفهم في الحقيقة.
كتب:
“أنا زهقت من كل حاجة، حرفيًا. بتحسّي إنك محبوسة في حياتك؟”
جات الإجابة بسرعة، كأنها كانت مستنياه:
“طول عمري.”
ابتسم رغم تعبه… هي دايمًا بتفهمه.
كتب:
“طب وإنتِ إيه حكايتك؟”
الرد اتأخر شوية المرة دي، لكنه وصل:
“حكايتي؟ معقدة، مش هتحب تسمعها.”
كتب وهو بيحاول يخفّف الجو:
“جربي، يمكن تطلع مش أسوأ من حكايتي.”
جاوبته أخيرًا:
“بابا كان شايف إن البيت سجن، وإننا ملكه. كان بيعاقبني على أي حاجة حتى لو مش غلطتي، كنت عايشة في خوف دايم. وده خلاني أكون حد بيكره حياته، بيكره نفسه.”
وقف لحظة قبل ما يكتب، لأنه حس بحاجة غريبة… كأن الكلام ده مش مجرد كلمات ع الشاشة، كأنها حقيقية جدًا.
“طب وإنتِ دلوقتي؟”
“بحاول أكون حد تاني، بس الماضي دايمًا بيطاردني.”
حس إنها بتتكلم عن حاجة أعمق بكتير من مجرد ذكريات. كتب بعد تفكير:
“أنا كمان بحاول. أنا كنت طفل ضعيف، أبويا سابني زمان ومارجعش، مافيش حاجة في حياتي بتحصل زي ما أنا عايز. بحاول أكون قوي، بس مش عارف الطريق.”
مرّت لحظة قبل ما ترد:
“يمكن علشان الطريق اللي بتدور عليه مش موجود… يمكن لازم تخلق طريقك بنفسك.”
ابتسم لأول مرة من قلبه من فترة. كتب وهو حاسس إنه لأول مرة لقى حد بيفهمه بجد:
“بالمناسبة، أنا اسمي مالك.”
الإجابة جت هادية جدًا، لكنها دخلت جواه كأنها مألوفة… كأنها اسم كان المفروض يعرفه من زمان:
“وأنا لينا.”
ابتسم مالك وهو بيبص لكلامها… لأول مرة تحسسه إنه كان مقصّر.
“انت ليه مسألتش على اسمي في الفترة اللي فاتت؟ وليه محاولتش تعرف شكلي؟”
وقف لحظة قبل ما يكتب، كان عارف إنه ساب حاجات كتير معلّقة بينه وبينها، لكن في نفس الوقت… هو عمره ما فكر في ده، أو يمكن كان خايف يفكر.
كتب أخيرًا:
“يمكن علشان كان عندي إحساس إن الأسماء والأشكال ما بتفرقش… اللي فرق معايا كان الكلام، كان إحساسي إنك بتفهميني حتى من غير ما تسأليني.”
جات إجابة سريعة، كأنها كانت مستنياه يقول حاجة زي كده:
“بس أنا سألت عنك، تخيلت شكلك مليون مرة، حاولت أفهم انت مين، وكنت مستنية في يوم إنك تسألني أنا مين.”
مالك حاس إنه لأول مرة من ساعة ما بدأوا كلام، هي مش بس بتشاركه أفكارها… هي بتحاسبه. وكأنها بتقوله: ليه ما كنتش فضولي كفاية علشاني؟
كتب بعد تردد:
“طب كنتِ متخيّلاني إزاي؟”
ردّت بسرعة:
“حد في عيون تعبانة، بس مش من السهر… من التفكير. حد بيحاول يكون قوي، بس مش قادر يخدع نفسه. وحد… محتاج حد يفهمه.”
ضحك بصوت مسموع، رغم إن الكلام أصابه في مقتل. كتب وهو بيحاول يخفف الجو:
“طب لو عرفت شكلي وطلع مختلف عن اللي في خيالك، هتبطّلي تكلّمني؟”
الإجابة جت مباشرة، أقوى مما توقع:
“أنا ما كنتش بتكلم مع شكلك من الأول… كنت بتكلم معك إنت.”
ابتسم مالك وهو بيقرأ كلماتها… حس إن الجملة دي تحديدًا لمست حاجة جواه كان دايمًا بيحاول يهرب منها. هو نفسه ما كانش عارف هو بيهرب من إيه بالظبط… من الناس؟ من الماضي؟ ولا من نفسه؟
كتب وهو بيحاول يخفي اضطرابه:
“وأنا كنت بتكلم مع إحساس… مع صوت كنت بحسه قريب مني أكتر من أي حد في حياتي.”
المحادثة سكتت لحظة، لكنه شاف إن لينا بتكتب… وبعد ثواني جت الرسالة:
“وأنا كمان حسيت كده، بس الخوف دايمًا جزء مني… حتى وإحنا مجرد كلمات ع الشاشة، أنا خايفة.”
ضيق عيونه وهو بيقرأ الجملة… خوف؟ من إيه؟
كتب بحذر:
“خايفة مني؟”
“خايفة من اللي ممكن يحصل لو الكلام ده بقى حقيقة.”
كان المفروض الجملة دي تكون عادية، مجرد تفكير منطقي لأي شخص بيتكلم مع حد مجهول… لكن مالك حس إنها أعمق من كده. كأنها عارفة إن علاقتهم مش هتكون حاجة عادية، كأنها حاسة إنهم لو خرجوا برّه الشاشة… حاجات كتير هتتغير.
قرر يغامر وسأل:
“طب لو أنا قلتلك إني عايز أعرفك برّه هنا؟”
التلات نقاط اللي بتدل إنها بتكتب فضلت ظاهرة شوية… بعدين اختفت من غير ما تبعت حاجة.
فضل مستني، دقايق طويلة عدت، لكنه كان عارف إنها لسه هنا، عارفة إنه مستني ردّها.
وأخيرًا، ظهر قدامه سطر واحد بس:
“مش هتعجبك الحقيقة، مالك.”
قرأ مالك كلماتها أكتر من مرة، وكأن عقله بيرفض يستوعبها. “مش هتعجبك الحقيقة”؟ يعني إيه؟ كانت بتخدعه طول الفترة اللي فاتت؟ ولا هي مجرد خوف من حاجة مش واضحة؟
حاول يكتب ردّ، لكن لأول مرة حس إنه مش عارف يقول إيه… التردد كان بيقتله، وفي نفس الوقت، فيه إحساس غريب بيقوله إنه لو استسلم دلوقتي، كل حاجة بينهم هتضيع.
كتب أخيرًا:
“جربي تحكيلي الأول… بعدين احكمي إن كانت الحقيقة هتعجبني ولا لأ.”
المرة دي، ما كانش فيه تلات نقط، ما كانش فيه انتظار… كان فيه صمت، طويل جدًا، لدرجة إنه افتكر إنها خرجت من المحادثة، لكنه فجأة شاف إشعار برسالة جديدة:
“أنا مش زي ما أنت متخيل، مالك. حياتي معقدة، ومليانة مشاكل… ولو قربت أكتر، هتتأذي.”
ابتسم مالك بسخرية، كأنها ما تعرفش إن الأذى هو الحاجة الوحيدة اللي متعود عليها.
كتب بدون تفكير:
“وانتِ فاكرة إن حياتي سهلة؟ ولا إن أنا شخص طبيعي؟ كلنا عندنا حاجات بنخبيها، بس ده مش سبب يمنعنا نكمّل.”
المرة دي، ردّت بسرعة:
“مالك، أنت مش فاهم… أنا مش حرة. أنا عايشة حياة مفروضة عليّا، وحاجات كتير مش بإيدي. والناس اللي حواليا… مش هيسمحوا لي أكون مع حد زيّك.”
حس وكأن ضربة غير مرئية وقعت على صدره. “حد زيّك”؟ يعني إيه؟
كتب وهو بيحاول يخفي إحساسه بالرفض:
“زيي إزاي؟”
جت الإجابة أسرع مما توقع:
“مش من عالمي.”
كانت الجملة دي كفيلة إنها تشعل كل غضبه القديم، كل إحساسه بإنه أقل، بإنه دايمًا على الهامش. لكن بدل ما يرد بانفعال،
خد نفس عميق وكتب بهدوء خطير:
“طيب… ما تخلي العالم ده يختفي للحظة، وقوليلي بصدق… إنتِ كنتِ حقيقيّة معايا؟ ولا كنتِ بتمثّلي؟”
مرت لحظات، وبعدين جت الإجابة اللي قلبت كيانه:
“أنا معاك… كنت أكتر نسخة حقيقية مني.”
سند مالك راسه على الحيطة، وغمض عيونه، وهو بيحس لأول مرة إنه داخل حرب مش عارف هيكسبها ولا هيخسرها…
لكن الأكيد إنه مش هيرجع منها زي ما كان.
ظل مالك محدّقًا في الشاشة، كأن الكلمات مكتوبة بنار، محفورة جوّه. “أنا معاك… كنت أكتر نسخة حقيقية مني.”
لكن الحقيقة دي، رغم جمالها، كانت مؤلمة. كانت زي وعد مستحيل التحقيق.
كتب بهدوء مصطنع:
*“بس ده مش كفاية، صح؟”
اتأخر ردّها شوية، لكنه جِه أقسى مما تخيّل:
“في عوالم تانية، يمكن كان كفاية… بس مش في عالمنا.”
هنا، بدأ الإحساس الحقيقي بالهوة اللي بينهم يبان أكتر… المسافات مش مجرد شوارع ومدن، المسافات كانت أعمق من كده، كانت حياة كاملة مبنية على قواعد مش هو اللي حطّها، ولا هي حتى قادرة تكسرها.
هي كانت بنت عالم مرتب، مُترف، محكوم بقوانين صارمة، كل خطوة محسوبة، وكل قرار بيترتب عليه مصير. اتربّت في مدارس دولية، لغتها الأولى مش عربي، بتشوف الفلوس كأنها جزء من الحياة مش حاجة صعبة المنال. عندها بيت واسع، وسفريات سنوية لأماكن هو حتى مش متأكد إنه يعرف ينطق أسماءها صح.
وهو؟ كان في الناحية التانية تمامًا… كبر في بيت قديم، جدرانه أضعف من إنه تخبّي أسراره. درس في مدارس حكومية، مع مدرسين بيصرخوا أكتر ما بيشرحوا، وكان عارف كويس طعم إنك تستنى لبُكرة علشان تجيب حاجة نفسك فيها.
هي كان عندها مستقبل مخطط ليها من لحظة ولادتها… وهو، كان بيجري ورا أي فرصة تظهر، وكأن حياته سلسلة من الهروب المستمر من الفشل.
فرق السما والأرض… ولو أي حد شافهم، كان مستحيل يتخيل إنهم ممكن يتكلموا، ناهيك عن إن يكون بينهم حاجة أقرب للحب.
لكنه رغم كل ده، كان عارف حاجة واحدة: الحواجز الحقيقية مش الظروف، الحواجز الحقيقية هي اللي جوّه الإنسان.
كتب أخيرًا:
*“طيب… انتي نفسك في عالم تاني؟”
جت الإجابة بعد تردد واضح:
“نفسي، بس مش قادرة.”
ابتسم بسخرية. المشكلة دايمًا مش في الأحلام، المشكلة في تمن تحقيقها.
كتب وهو بيحس إنه بيقف على حافة هاوية:
“يبقى إحنا هنكون إما أعظم حاجة حصلت… أو أكبر غلطة عملناها.”
وهو مش متأكد أي نهاية مستنياه.
مرت لحظات من الصمت، كأنها اختبار غير معلن. كان عارف إن الجملة اللي كتبها مش مجرد كلام، كانت أشبه بتحدّي… ولو هي فهمت ده، فمعناه إنها قدّامه طريقين: يا إما تكمّل، يا إما تهرب.
وأخيرًا، ظهرت رسالتها على الشاشة:
*“طب وإنت شايفنا إيه؟”
سؤال بسيط، لكنه كان أعمق مما يبدو. السؤال اللي تحت منه ألف معنى… هل كان شايفها مجرد لحظة في حياته؟ تجربة؟ ولا حاجة أكبر بكتير؟
مسح الجملة اللي كان هيكتبها، وبدلها بجملة تانية:
“شايفنا احتمالات.”
*“يعني إيه؟”
“يعني إحنا زي شخصين واقفين على طرفي جسر مكسور… يا إما نلاقي طريق نعبر بيه، يا إما نقف مكاننا ونتفرج على المسافة اللي بينا وهي تكبر.”
كان مستني ردّها بقلق مش مفهوم… ومرّت دقيقة، دقيقتين، خمس دقايق، من غير ما تكتب حاجة. قلبه بدأ يخبط جوّه… هل قال حاجة غلط؟ هل استعجل؟
ثم ظهرت رسالتها:
“بس الجسر مش دايمًا بيتصلح… أوقات، لما بتجري عليه، بيوقعك بدل ما ينقذك.”
ابتسم رغم كل حاجة. هي كانت حذرة، خايفة، لكنه كان شايف في كلامها حاجة تانية… لو فعلاً ما كانش ليهم فرصة، ليه لسه بتتكلم؟ ليه لسه بتحاول تحط مبررات بدل ما تقفل الحوار؟
كتب ببطء، وكأنه بيحاول يختبر نفسه أكتر مما بيختبرها:
*“طب لو وقعنا؟”
“هنكسر.”
*“طب ولو ما وقعناش؟”
طال الصمت تاني… المرة دي كان أطول، وكأنها بتقلب بين إحساسها وعقلها. وأخيرًا، ظهرت كلمتها الوحيدة على الشاشة:
“ماعرفش.”
كان ده أول اعتراف حقيقي، مش خوف، مش هروب… مجرد حقيقة بسيطة: هما مايعرفوش.
لكن هو كان عارف حاجة واحدة… أحيانًا، المجهول مش لازم يكون مُخيف، أحيانًا، هو الحاجة الوحيدة اللي تستحق المخاطرة.
مرت الأيام، وبدأت الرسائل تتحوّل لشيء أكبر من مجرد محادثات عابرة. كانت بتتكلم معاه عن حاجات عمرها ما قالتها لحد، وهو كان بيحس لأول مرة إنه مفهوم… حد سامعه بجد، من غير أحكام، من غير ما يحس إنه محتاج يثبت أي حاجة.
في ليلة طويلة من المحادثة، بعد ما حكالها عن كل اللي تعب قلبه، عن الإحساس بالوحدة حتى وسط الناس، عن كونه دايمًا الشخص اللي بيتعامل كأنه مفروض يكون قوي، حتى لما جوّاه كان منهار…
قالت له: “وعدني إنك متتخلاش عني أبدًا.”
كأنه سمع صوتها وهي بتقولها، رغم إنها مجرد كلمات مكتوبة. حس بجدية الموقف، وكأنها ماسكة في الكلمة دي كأنها آخر حاجة ممكن تحميها من كل اللي بيحصل في حياتها.
كتب لها: “أنا مش هتخلى عنك، بس إنتِ كمان متختفيش.”
*“مش هختفي، بس لو اختفيت غصب عني، هتدور عليَّ؟”
“لحد آخر نفس فيَّ.”
كان كل وعد بينهم بيتسجّل جوّه، بيتبني زي أساس لجدار غير مرئي بينهم، جدار ضد الزمن، ضد الظروف، ضد أي حد ممكن يفكر يقسمهم.
وبين كل وعد، كانت بتظهر الفروق بينهم أكتر وأكتر… كانت عايشة في عالم، وهو في عالم تاني، هي وسط ناس حياتها محسوبة بدقة، بتقابل ناس من مستوى معين، محدش فيهم حتى يتخيل إنه ممكن يبص لحد زيّه. وهو؟ كان شايف الدنيا بشكل أبسط، شايف الحياة كلها كفاح، شغل، محاولة تثبت نفسك وسط كل اللي بيحاولوا يدفنوك بالحكم المسبق.
بس مع كل فرق بينهم، كانوا بيلاقوا حاجة تربطهم أكتر. كانوا زي نغمتين مختلفتين، بس مع بعض بيخلقوا لحن مش شبه أي حاجة تانية.
في ليلة تانية، بعد يوم صعب ليها، بعد مشاكل في بيتها ودموع حاولت تخبيها عن الكل، بعتت له:
*“لو قلت لك تعالي خطفني، هتعملها؟”
ضحك رغم جدية السؤال، وردّ: *“طب وإحنا في فيلم هندي؟”
“أوقات بتمنى لو كانت حياتي فيلم، كان هيبقى عندي نهاية سعيدة على الأقل.”
هنا، لأول مرة، حس بالخوف… مش عليها بس، لكن على نفسه كمان. لأنه بدأ يحس إنه مش قادر يبعد، حتى لو كان عارف إن الطريق اللي هم ماشيين فيه مفيهوش أي ضمانات.
لكن كان متأكد من حاجة واحدة… مش مهم قد إيه الدنيا هتبقى صعبة، مش مهم قد إيه الفرق بين عالمه وعالمها، هو مش ناوي يسيبها تواجه كل ده لوحدها.