من أكون سواء ظل من الظلال، أنا ميت حي في كل الأحوال, ولكن أحلام بها حرية الحياة
في البدء رمقت مسدس الهمسات علي الطاولة الخشبي، كان يناديني من بين ذكريات.
لا أعرف متى بدأت الكارثة بتحديد.
حين قتلت. أو ربما حين بلغني أحساس الموت في همسات مقدسة.
نظرتُ في المرآة المستديرة المشققة لأول مرة بعد خروجي من السجن، أو ربما حين رأيتُ فيها شيئًا لم يكن يخصني. نعم، كنت أرى انعكاسي، جرحي القديم المنسي المواعز، ولكنّه لم يكن أنا.
كان هو… ذاك الآخر الذي بفضل مسدس الهمسات ظهر ، خرج مني مثل شظية صدئة من جمجمة قديمة المليئة بذكريات مدفونة في أبواب معلقة بأقفال النسيان.
ذاتي التي عادت للحياة، لا لتعيش… بل لتنتقم.
أنا العالق في الرماد، أنا البحث عن المراد، ومن أجلها سأنتقم لها.
في أحلامي، المرآة ذات الشعر الأسود الطويل لم تكن سوى شاهد قبر، حُفرت عليه ملامحي لكن دون روح. كنت واقفًا أمامها كما يقف رجل أمام ماضيه، وهو يعرف تمامًا أن لا شيء يمكن إصلاحه
نعم، رأيت الحقيقة، في ذكري بعيدة، والدماء الحمراء القرمزية كالنبيذ تجري علي ترابي.
أنتفض، أرتعت، خوفت، وقلبي يدق في صدري، والعرك يكسوني كرداء مرعب من كوابيسي.
ومسدس الهمسات في قبضتي، وسمعت الخوف يناديني: “تذكر، تذكر، يا حبيبي”.
لقطات من عذاب، هلع وارتباك، صراخ وضعف وبكاء، ودماء علي التراب.
رأيت الحقيقة
والكارثة أن الحقيقة كانت تبتسم لي من خيالات شاهد القبر الحجري ذو الأزهار الذابلة التي تريد الماء.
تريد الانتقام.
أنا جباب، عظيم في الخيال، شجاع في الأحلام، وأدمن عشق النسيان.
حبيبتي ترقد بين التراب والأحزان.
أنا جبان ولست رجل، فأن تكون رجلًا حقيقًا، يعني أن تُغتال في وضح النهار، ثم يطلب منك معذبك الممثل لعدل القانون، شهادة حسن سير وسلوك، ويقول من علي المقعد العالي البعيد، وشريط ميزان العدل الأخضر القماشة يعانق صدره الذي خلا من القلب والضمير.
.“ أنت قتل القتيل”
منذ متي وأصبح القلب قتيل، أصرخ فيهم من بين ظلمت القضبان.
“من يقتل روحه، ويظل فيها يعيش، يظل فيها وحيداً تعيس”.
“أنت من قتل القتيل، ولا مزيد، فلدينا شهود من رؤوس الأعيان، قالوا بأن ظلك يطوف في مسرح الجريمة، ولا تنكر الحقيقة، فانا لا أحب الكلام المعسول من فك وحش ماكر يضرك كذئب الغابات”.
اصرخ مجدداً: “كل من يقال كذب”.
رمقني بنظرة غاضبة، وقال في خشوع: “ملائكة الأرض لا يكذبون، فالرب دائما موجود”.
وهبط الشاكوش علي راسي.
صرخ في الفراغ، هم أوغاد، فالملائكة فقد تسكن السماء.
ولكني الآن أسكن مقبر الظلام، لا يواسيني في ظلمتها السوداء سوء مسدس الهمسات اللعين الغير موجود في الحقيقة بل موجود في خيالاتي، أنتقم، دماء، والخائن كان صديق، أو هكذا ظننت، فالعدل في حقيقي هذه الأيام، يعني أن تعود من الجحيم، وفي جيبك جواب أعتذر لمن خانك، ودفنوا أحلامك في مقبرة الظلام.
ولكني هنا الآن، أراقبهم كظل خرج من الظلال.
عاد لكم…..
ولأني عدت، ولأني لم أمت كما أرادوا، فقد قررت أن أُصبح شيئًا آخر… شيئًا لا يُنسى
مسدسي؟
مسدس الهمسات أصبح في الواقع هو الحقيقة لتحقيق العدل.
آه، إنه ليس مجرد سلاح، بل هو الضمير المسلول في وجه العالم القاسي، إنه الشيء الوحيد الذي استقبلني حين خرجت من الزنزانة المظلمة، وقال لي كأنه رفيف قديم: ”أهلاً بك في الخارج المرير، الآن لن تسجن… بل ستُدفن بعد أن تشرب نخب الأوغاد”..
أمسكته بيدي اليمنى، يد المرتجف العائد من ظلال السنين، كأنها ليست يدي القديمة المرتعشة، بل آخري قوية ثابتة..
ثم خرجت من بين الظلال…
كانوا هناك… أولئك الناس الذين يمشون على الرصيف، يأكلون، يضحكون، يثرثرون عن الطقس والمباريات والخصومات الزوجية، عالم من البؤساء، أنها مسرحية سخيفة تتكرر وتتكرر علي الدوام.
وأنا…
كنت أراقبهم كما يراقب الذئب قطيعًا من الخراف..
ولم أعد أشعر بشيء.
أقسم أنني لم أعد أشعر بشيء.
من أنا؟
أنا الهلاك إذا قرر أن يتكلم في الفراغ..
أنا الصمت إذا صرخ في الجدران..
أنا الرجل الذي عاد من النسيان، وهو يعرف تمامًا ماذا يجب أن يُنسى… وماذا يجب أن يُقتل، وما يجب أت يفعل هناك..
ومسدس الهمسات يصرخ…. ويصرخ.
الماضي والذكريات.
وشبح السيدة ذات الشعر الأسود الطويل يطاردني.
ويقول صوت الهمسات لي في الليالي عن الأموات الراقد في القبور، والأزهار الذابلة تنتظر أن تتبلل بالدماء.
سجن، ظلام، عقاب، وهمسات.
في المقهى كنت قد قررت منذ زمن أن أكون شيئًا ما ليس مضحكًا.
لا بمعنى الضحك الحقيقي، بل الضحك الذي يجعل الآخرين ينظرون إليك ويتساءلون في حيرة::
“هل هذا الرجل مجنون؟ أم نحن من فقدنا عقولنا؟”
ولعلّي مجنون فقط، يستمع لمسدس الهمسات، ولكن، من منّا عاقلٌ حقًا؟
من منّا يملك الجرأة ليقول: “أنا أفهم ما يحدث حولي، أنها مسرحية سخيفة، ليست علي خشبة المسرح المعتاد، أيها الأوغاد”؟
أنا فقط… رجل يعرف الحقيقة… وأريد أن أعانق وردة السماء.
هناك حيث الملائكة الحقيقيون،
و تنتظرني حبيبتي في البستان.
وزهرة صغيرة من نسلي تبتسم في سطوع شمس المساء.
وأغمض مقلتي.
وأبتسم وأنا أهوي……….
للهاوية.
لا أذكر تمامًا كيف بدأت المطاردة..
حين هويت لأعماق الجحيم ، أو حين أطلقت الرصاصة؟
ربما……. وربما لم أفعل في الحقيقة، كل ما أعرفه أن صدى الطلقة ما زال يرن في أذني، وصدي الصوت في عقلي يرن كجرس عتيق لا يتوقف، رغم أنني لا أملك دليلًا على أنني ضغطت الزناد الصلب البارد في مسدس الهمسات.
لكنني هربت. وهذا يكفي..
رؤوس الموتى في الجدران عالقة كتماثيل بلا أجساد، يصرخون، ينزفون الدماء، يتوسلون: “الرحمة”.
أتسأل، عن من رحمنا من قبل، لا احد فعل هذا، فلماذا اهتم، هم أموات في كل الأحوال، مسرحية سخيفة من الخيال، أرمق الحصاء يحت قدميي، حيث كنت أركض في شوارع المدينة القديمة، كما يركض حلمٌ قديم وسط كوابيس متكررة، الحوائط تتقافز، الأرصفة تميد، والسماء كانت تنزّ بلون رمادي، كأنها مجرمة تغسل يديها بعد جريمة دامية.
الدماء حمراء كالنبيذ والنار، والغدر، والعار.
هل تعرف شعور أن تطاردك المدينة نفسها؟ أن تشعر أن كل نافذة عين تراقبك، وكل باب فخ، وكل قطة هناك في الظلمات جاسوس بغيط؟ وكل جدار يحمك هو في الحقيقة يرشد من يريد موت.
كنت أركض أهرول ألهث بلا توقف، لا… لأنني مذنب جبان أخاف منها أو من الموت، بل لأنني كنت أعرف أن الانتقام لم يعد عملة متداولة بين صفوف الجبناء.
ملمس الأرض ثقيل جاف، حيث كنت أركض، وأنا أسمع نباح الكلاب من خلفي، وهل هناك شيء أكثر صدقًا من نباح كلب في الظلام؟ حينما ينبح وتسمعه، يدخل لك أحساس بالطمأنينة، فالكلب هو الصديق الوفي الذي لا يزيف، ولا يمثل، ولا يبتسم في وجهك وهو يخطط لطعنك من الخلف، حينما تستدير..
الكلاب لا تخون……
البشر يخنون….
الكلاب لا تلبس بذلات رسمية سوداء، وتبيعك في مقهى بخمس مسدسات مستعدة لرشق الرصاصات في جدار صدرك الواهن، وابتسامة زائفة فيهم..
الكلاب ليست بشرًا.
أما البشر؟
فدعني أخبرك، يا عزيزي، أن الإنسان كائنٌ أخرق، يحب أن يتكلم عن الفضيلة وهو يغتصبها أمام مرآة الحقيقة….
يكتب قصائد عن الحب والعشق والحياة، وهو يذبحه على قارعة الطريق أمام شاهد الناس.
ويبكي بدماع مزيفة على صورة طفل ميت غدراً، بينما يغلق النافذة على جاره الذي يصرخ جوعًا.
الإنسانية ما هي الا خديعة تحمل عنوان الحقيقة.
والمضحك في كل هذا، أنني كنت أؤمن بهذا.
أقسم أنني كنت أؤمن بهذا.
القانون، العدل، الحق.
كلمات من رمادي تسقط في الظلال.
كان لي صديق.
لا، ليس صديقًا.
كان ظلي.
وكنت أظله.
ولما سقطت، قال لي بابتسامة لا تُنسى: “سامحني… اضطررت.”
اضطررت؟
يا إلهي، كم من الجرائم ارتُكبت باسم “الاضطرار”.
أترى؟
أنا لا أكرههم لأنهم خانوني.
بل أكرههم لأنهم كانوا يعرفون أنني أثق بهم، ومع ذلك خانوا بثقة تامة.
ورصاصة تخترق ساقي.
الم، حرارة، غبار.
في الجحيم يجب أن ترقد بلا توقف.
الآن، هم خلفي، يركضون بخوذاتهم، يقتربون، وأسلحتهم الساخنة نحوي، وأنا أركض أمامهم بقدم مصابة، وخيط الدم ينهمر منها بالحياة، وهلاوس مشتعلة، وضحكة باردة، حادة.
كأنني مهرّج في عرض مأساوي، يعرف أن نهايته ستُكتب بالدم.
أعرف أن النهاية تقترب.
أشعر بها في لسعة الهواء البارد على عنقي، في خشونة المسدس في يدي، في عواء روحي وهي تُذبح.
لكني لن أموت دون أن أقول كلمتي.
فليمت العالم… لكن دعوني أتكلم.
أنا لست مجرمًا. أنا الحقيقة
أنا نتيجة.
نتيجة لما يفعلونه بالقلوب حين تَصفو، بالعقول حين تَصدق، وبالأحلام حين تَجسر.
أنا رجل جبان جدًا.
شجاع؟
عظيم.
الآن، دعونا نضحك معًا…
واقف ثم اوجه. وهمست برعب وخوف : “لنبدأ الرقصة؛ والرقد واطلاق النار من الظلال”.
فتحت عينيَّ المتعبة بعد الرقص في المنام، الحقيقة تختلط بالخيال،
صرير عظيم للبابٍ.
لم يُطرق بعد او يطرق الآن.
لا أحد يطرق الأبواب بعد الآن، لا ملائكة، ولا رجال شرطة، ولا حتى جوعى يطلبون كسرة خبز.
الجميع يدخل، كأن البيوت خيام في مهب الريح، لا حرمة لها، ولا أصحاب.
الزنزانة ضيقة.
ليست بالمعنى المعماري، بل بالمعنى الفلسفي والعميق. أريد التنفس يا أوغاد.
أصرخ، ولا أسمع الا صدي النسيان وصرير الباب.
كل شيء هنا ضيّق: الهواء، الجدران، والأفكار.
أفكاري الآن أشبه بعجوز ترتجف فوق مقعدٍ مهترئ في قطار بلا وجهة.
وانفتح الباب المعدني.
جاءني الحارس بصمته، وضع قطعة خبزٍ سوداء تشبه ضميري، وانصرف.
لم ينظر إليّ.
وهذا أغضبني.
أريد أن يراني أحد.
أريد أن يقول أحدهم: “أنت حيّ.”
حتى لو قالها ليلعنني، ليبصق عليّ، ليشهد على جرمي… لا يهم.
فكل هذا أفضل من هذا الصمت الرمادي.
في الليل، جاءتني هي.
للحظة. لا أدري من تكون، لكنها تأتي كل ليلة.
بلا ملامح، بلا صوت، مجرد وهج خافت على هيئة امرأة.
تجلس عند طرف السرير الحديدي، وشعرها أسود طويل يصل للركبة، ويسحب علي الأرض كالديدان، و راحت تغني.
لكن غناءها لا يُسمع، بل يُشمّ برائحة الموت، كأنها كانت ….أم….، في زمنٍ بعيد، قبل أن تُسحق الطفولة تحت أقدام الأوغاد.
خمسة والرصاص يخرج منهم، تذكرت.
قالت لي ذات الشعرالأسود الطويل.”هل تحب الأغاني “.
وراحت تغني:
(“هُمسُ المسدسِ الأخير”على لسانها…ما عدتُ أعرفُني… فمن أنا؟ أنا التي شربتْ دمي زمنا؟ أم زوجةٌ، ناحتْ على قممٍ، ثم استحالتْ رعشةً وسِنًا؟ قد كان قمري، كان نافذتي، كان الهواءَ… وكان لي وطنا، حتى رأيتُ النورَ يذبحُه، خمسُ خناجرَ… لا يدٌ زَمَنَا!، سألتُ رمادي: كيف أنسى؟ فجا، كأن في لغتي جُنونَ المِنَنَا فسكبتُ وجعي في مسدّسي، وهمستُ: “إنّي قد أتيتُ أنا” واحدٌ… ارتجفَ الرصاصُ له، ثانٍ… وكانَ الموتُ مؤتمَنًا، ثالثٌ… رابعٌ، وخامسُهم، بكى وقال: “اغفري… فدَنا!”، لكنني… لستُ التي عفتُهم، أنا ابنةُ الثأرِ… أمّيَ الفِتَنَا، لما أداروني إلى القضبان، ضحكتُ: “سجني… قبرُ من خانا”، هذي الجدرُ تبكي معي، وهذي العيونُ تلوكُني علنًا، هل كنتُ قاتلةً؟ أم الشَّهْقةَ الأخيرةَ، في فمٍ سكَنَا؟ الليلُ يعبثُ بي، يحادثني، أسمعُ همسَ الرصاصةِ المُعلَنة، “هيا اقتليكِ، فكلّ شيءٍ فَنى، ما عادَ للمعنى طريقٌ هنا”، قالت رصاصتي: “أنا شاهدُكِ، أنا صلاتُكِ، موتُكِ المُزْدَنَا”، قلتُ: “اصمتي… زوجي هنا…ما زال في عينيّ مُرتحِلًا!”، “لا شيء يبقى…” قال ظلٌّ نأى، “كلّ الوجوهِ تموتُ لو سُئِنا”، لكنّ طيفَك يا حبيبي معي، يأتي إذا كلُّ الورى فَتنا يمسحُ جفني… يُطفئُ الجنونَ، ويقولُ: “عُودي… أنتِ من كُتِبَنَا”، فهل أراكَ…؟ أم كنتُ أنحرُني؟ هل كانَ قتلي لآخرِ الزمنِ؟ أم كنتُ أكتبُ قصتنا… برصاصِ أنثى لم تَعُدْ تُؤمنِ؟ أو هو مسدس الهمسات يصرخ ويضرخ).
قالت: “مسدس الهمسات”.
أو ربما همست في داخلي بعد نهاية كل الأغاني:
“هل ترى؟ ليسوا هم المجرمون الأوغاد. أنت كنت الغبي.”
ضحكتُ.
ضحكتي كانت طويلة كشعرها، كأنني أخرج ما تبقى من الهواء في رئتي دفعة واحدة.
الغبي؟
نعم.
غبي لأنني أحببت، غبي لأنني صدّقت، غبي لأنني رأيت في رجلٍ مبتسم في انعكاس الزجاج… روحًا.
أنا الآن في مكانٍ بلا زمن، كأنني مُعلَّق بين جنازتين: جنازتي القديمة حين طُعنت، وجنازتي القادمة حين أُعدم.
ولا فرق بينهما…
كلاهما مليء بالغرباء الذين يرمقون التابوت ولا يسألون: من؟ لماذا؟ كيف؟
أتمنى لو يحضر واحد فقط،
واحد يعرف اسمي الحقيقي.
واحد بكى معي مرة في المطر.
واحد قال لي ذات يوم: “أنا هنا.”
لكن لا أحد يأتي.
لأنني رجل جبان جدًا.
والناس لا يحبون من يضحك في الجنازات.
الليلة، سأكتب وصيتي.
سأحفرها على جدار الزنزانة بمسمارٍ صغيرٍ وجدته في الخبز:
………… وتلاشت السيدة ذات الشعر الأسود الطويل……….
أنا أهرب؟ أنا أغير قدري بقبضتي المرتجفة علي مسدس الهمسات؟
ما الذي دفعني إلى هذا الوهم؟
أهو الغرور الذي يتنكر في ثوب الإيمان؟
أم حماقة الإنسان حين يظن أن قلبه وحده يكفي للنجاة؟
لم تكن الزنازين يومًا جدرانًا من حجر.
الزنازين الحقيقية… هي نحن.
هي الغرف التي نسكنها داخل أنفسنا،
غرفٌ بلا نوافذ، بلا أبواب،
بلا شيء سوى الظلام،
وبعض الأصوات البعيدة التي تشبه النحيب.
هربت… أو هكذا خُيّل لي.
الشوارع التي أراها في أحلامي لا تبتعد أبدًا،
لأنها محفورة في جمجمتي.
كنت أركض،
وفي كل خطوة… أهرب من نفسي.
لكني لا أصل إلى مكان،
ولا أترك شيئًا خلفي سوى أنفاسي الثقيلة،
وذكريات تنزف على حواف ذاكرتي.
كان لدي حلم.
كان لدي أمل.
لكن الحلم سئم ثقلي،
والأمل… ضاع في زوايا لا يبحث فيها أحد.
تركني كل شيء،
حتى الكلمات،
تحوّلت إلى رماد يتناثر في دمي.
قال لي أحدهم ذات يوم:
“ليس في الحياة مكانٌ للضعفاء.”
ضحكت…
لأني كنت أراه، وهو القوي،
يرتجف حين ينطفئ النور،
يخشى نفسه أكثر مما يخشى أعداءه.
أنا لست ضعيفًا،
لكني أرى الضعف في كل شيء حولي:
في الكاذبين، في الخونة،
في الذين بنوا أبراجهم من خوف،
وتركوا من يشبهونني نموت في الأزقة كالحشرات.
ثم جاءوا…
خمسة رجال.
لا وجوه، لا أسماء، فقط أصابع مشدودة على زناد.
ركضوا خلفي،
وفي أعينهم جوع…
جوعٌ لقتل لا يبرره شيء.
ركضت.
خفت.
قفزت بين الأزقة كفأرٍ مذعور،
أحاول النجاة من مصيرٍ يشبهني.
كلما اختبأت،
أحسست بأنهم لا يطاردونني… بل يطاردون ضعفي.
وفي النهاية،
وجدتني على حافة برجٍ عالٍ،
الهواء يصفع وجهي،
وصوت المدينة يتراجع إلى صدى بعيد.
خلفي، خطواتهم تقترب.
أمامي، لا شيء… سوى الفراغ.
لم أتردد.
سقطت.
سقطت في العتمة،
كمن يعيد ولادته في العدم.
لكنني لم أصرخ.
ضحكت.
ضحكة غريبة،
كأنني أتحرر،
كأنني أُولَد في الجحيم، لكنني أمتلك هذه المرة حق الاختيار.
وأثناء السقوط…
رأيتها.
السيدة ذات الشعر الأسود الطويل.
لم تكن تمشي،
لم تكن تطير،
بل كانت تطفو في الظلام،
كأنها جزء من الأغنية التي لا يسمعها أحد.
وجهها ميت كالحقيقة،
وعيناها تقرأانني كما تُقرأ القصائد المهجورة.
كانت تغني…
أغنية بلا كلمات،
لكنها كانت تهزُّ قلبي.
صوتها حزين، عميق،
كأنه يأتي من زمنٍ قبل الخلق.
نظرت إليّ،
نظرة لا تشفق…
بل تبارك انهياري.
ضحكتُ أكثر،
والفراغ يبتلعني…
وهي تواصل الغناء.
صوت المسدسات تلاشى،
أقدام المطاردين اختفت،
لم يبقَ سواي،
وسواها…
وصدى الأغنية.
عندها أدركت:
أنا لا أهرب من أحد،
أنا أهرب من نفسي.
لكن الزنزانة الحقيقية لم تكن ذلك البرج،
بل كانت هنا…
في صدري،
في عقلي،
في كل لحظة صدّقتُ فيها أنني أستطيع الهرب.
الآن،
أنا أسقط…
وأضحك…
وأسمعها تغني.
وأتمنى…
لو لم أكن أنا.
هل تعرف هذا الشعور؟
أنك لا تستطيع أن تتنفس بحرية، رغم أنك تحت السماء نفسها التي تتنفس فيها كل المخلوقات؟
هل تعرف هذا الفراغ الذي يعشش في قلبك حتى يصير وكأنك لا تنتمي إلى هذا المكان؟
أن ترى نفسك تذوب داخل هذا العالم، وكأنك قطعة خشب تتآكل ببطء في بحر لا نهاية له؟
أنا هنا، لكنني لا أشعر أنني هنا.
أنا في هذا الجحيم الذي لا يراه الآخرون.
الجحيم ليس خارجنا، لا.
الجحيم هو هذا الفراغ الذي يعترينا، هو هذا الشعور الذي يطاردنا رغم محاولاتنا البائسة للهروب منه.
الجحيم هو أن تعيش في عالم مليء بالزيف، وتدرك في ذات اللحظة أنك لا تستطيع أن تُحيي فيه أي شيء حقيقي.
نعم، أنا أضحك.
أنا أضحك لأنني أرى نفسي أكثر الناس فشلًا في الوجود.
لكن هل الفشل يعني أنني لا أستطيع أن أستمر في الحياة؟
هل يعني أنني يجب أن أختفي في الظلام؟
لا، أظن أنني لا أستطيع أن أختفي.
رغم أنني أرغب في ذلك، إلا أنني أظل هنا، أعيش هذا العذاب الداخلي الذي لا يموت.
كلما فكرت في الماضي، يراودني شعور غريب.
كيف كان يمكن أن تكون حياتي مختلفة؟
هل كنت سأعيش حياة أخرى لو أنني اتخذت قرارات أخرى؟
هل كنت سأكون سعيدًا لو كنتُ غير ما أنا عليه الآن؟
لكن هذا التفكير عبثي، أليس كذلك؟
فأنا لا أستطيع أن أغير شيئًا.
ما مضى قد مضى، وهذا هو مصيري.
وهل يمكن للإنسان أن يهرب من مصيره؟
لا، بل هو يقاتل إلى آخر لحظة في حياته ليعيش كما يشاء.
لكنه في النهاية، لا يجد نفسه إلا غارقًا في بحر من الهزائم.
ها أنا هنا، وسط هذا الجحيم.
ليس هناك نارٌ تحرقني، ولا ألسنة لهبٍ تلتهمني.
الجحيم هو هذه العزلة التي تكمن في روحي، هذه الوحدة التي تنبت داخل قلبي.
أنا وحيد، رغم أنني بين حشد من الناس.
أنا غريب، رغم أنني في بيتي.
أنا في السجن، لكنني لا أحتاج إلى جدران لتقييد روحي.
في لحظات معينة، أشعر وكأنني أتعذب بلا سبب.
هل تعرف هذا الشعور؟
أن تشعر أنك تعيش في جرحٍ مفتوح لا يشفى أبدًا؟
وأنك تتمنى فقط أن يأتي شخص ليخبرك بأنك قد عشت حياةً حقيقية؟
لكن لا أحد يأتي، لا أحد يلتفت إليك، لأن الجميع في هذا العالم منشغلون بأنفسهم، في هذا المأساة المستمرة التي اسمها الحياة.
لكنني، مع ذلك، لا أستطيع أن أستسلم.
ليس لأنني قوي، بل لأنني لا أملك خيارًا آخر.
أنا هنا، وهذه هي حياتي الآن.
وحيدًا، في هذا الجحيم الذي لا أستطيع الهروب منه.
ولكني استطيع أن أتوحد معها.
هل تصدق أنني قد أمضيتُ حياتي كلها في البحث عن مخرج؟
مخرج من هذا السجن الكبير الذي أسمّيه الحياة؟
أمضيتُ كل تلك السنوات أركض خلف وهم الحرية، فقط لكي أكتشف في النهاية أنني كنت أهرب من نفسي.
أنا لا أستطيع أن أفر من هذا السجن؛ لأنه ليس مجرد جدران، ليس مجرد قضبان، ليس فقط تلك الزنازين المظلمة.
السجن هو نفسي، هو أفكاري، هو تلك الهمسات التي تعيش بداخلي.
أنا هنا، كما لو أنني عاصرتُ الحياة بكل تفاصيلها، لكنني بقيتُ جثة، لا أملك القدرة على أن أعيش كما يجب.
رغم كل هذا الألم، رغم هذه الآلام التي تسكن أعماقي، لا أستطيع أن أتوقف عن التفكير.
هل فكرت يومًا، عزيزي، في هذا السؤال البسيط: لماذا نحن هنا؟
هل نحن هنا لكي نعيش؟ أم لكي نعذب أنفسنا؟
ما هو هدفنا في هذه الحياة التي لا نملك فيها سوى الخيبة والندم؟
أنا هنا، لكنني لا أستطيع أن أعيش كما يجب.
أنا أعيش في دوامة من الخوف والندم.
كلما حاولت أن أخرج منها، وجدت نفسي أغرق أكثر.
وكأنني أسير في دائرة مغلقة، دائرة من الهزائم، لا أستطيع الخروج منها.
كل شيء أصبح ضبابيًا.
كل شيء أصبح غير حقيقي.
هل تعرف هذا الشعور؟
أن تكون في قلب المعركة، لكنك لا تدرك أبدًا ما إذا كنت تنتصر أم تنهار؟
أن تكون محاصرًا في الداخل، بينما العالم من حولك ينهار، وأنت لا تستطيع حتى أن تصرخ؟
أعرف أنني في النهاية سأواجه ما كنت أهرب منه طيلة حياتي.
اللحظة التي كنت أعتقد أنني سأتفاداها.
لكن، هل يمكن للإنسان أن يتفادى مصيره؟
هل يمكنني أن أهرب من هذه الدائرة الملعونة؟
ولكنها السجن مهما خرجنا منها فهو موجود بداخل أعماقنا.
أمسكتُ بالمسدس، ذلك السلاح الذي كنت أراه كحلٍ أخير، كما لو أنه سيحررني من كل شيء.
كانت يدي ترتجف قليلاً، لكنني لم أتردد.
أصبحت عينيَّ لا تريان سوى تلك اللحظة، تلك اللحظة التي طالما حلمت بها، وتمنيت أن تأتي سريعًا.
أحسست به على شفتي، وبكل شيء من حولي يختفي في ضباب.
كل شيء أصبح تافهًا، حتى الجدران التي تحيط بي.
أغمضتُ عينيّ، ولكن لم أتمكن من إبعاد هذه الفكرة التي تراودني:
هل حقًا سأموت الآن؟
هل هذه هي النهاية؟
رفعتُ المسدس إلى فمي، وكأنني أواجه العالم كله.
وكأنني أصرخ في وجه الوجود ذاته، في وجه الحياة، في وجه الندم الذي يلاحقني.
ضغطتُ الزناد…
دم
لا الم
ولكن…
… لا شيء.
لم يحدث شيء.
تدفق الصمت من حولي، وأنا في مكاني، لا أستطيع أن أصدق ما حدث.
هل كانت تلك اللحظة هي اللحظة الحاسمة؟
هل كنتُ أبحث عن هذا الهروب فقط لكي أكتشف أنني لا أستطيع أن أهرب من نفسي؟
هل أكون في النهاية قد تمسكت بهذا الشعور، هذا الفراغ الذي لطالما شعرت به في أعماقي، حتى في تلك اللحظة الأخيرة؟
هكذا، في غفلة، اكتشفت أنني لا أستطيع الهروب.
أريد أن أموت، لكنني لا أستطيع.
أنا هنا، في نفس المكان الذي أبدأ منه دائمًا.
أعلم أنني سأظل هكذا، أبقى في هذا الجحيم، لأن الجحيم، في النهاية، ليس إلا جزءًا مني.
وأنا، هنا، في هذه اللحظة، أستمر في أن أعيش كما لو أنني ميتٌ منذ البداية.
وبينما ينطفئ كل شيء من حولي، أظل أسيرًا لهذا الجحيم الذي لا أستطيع الهروب منه.
استيقظت
استيقظت
أنا حي بتأكيد
وسالت نفسي من الأعماق:
هل كنت احلم ، وهذه ليست نهايتي.
كل هذا الهراء مجرد حلم من أحلامي.
في محبسي الجديد حينما استيقظت من موت النوم، سمع مسدسي يقول لي الحقيقة الغائبة.
الليلُ لا يشبهُ الليلَ حين تسكنهُ الأفكار، ولا الجدرانُ جدرانًا حين يُصيبُها العطبُ من داخلك،
ولا أنتَ… أنت.
الزنزانةُ ضاقت، أو أنا اتّسعت.
ربّما كبرتُ حتى صرتُ أملأ الفراغاتِ في هذا العالم، وربّما انهرتُ في داخلي حتى تحوّلتُ إلى ذَرّةٍ لا تُرى، لا تُحَسّ، لا تُذكَر.
فكّرتُ طويلًا:
هل أنا القاتلُ حقًّا؟ أم أنا القتيلُ الذي لم يمت بعد؟
هل كان المسدّسُ أداةَ انتقامٍ، أم أداةَ نجاة؟
هل ما فعلتهُ عدل؟ أم صدى من عدالةٍ ماتت منذ قرون؟
وقراءة خبر موتي في عنوان في جريدة منسية
كلُّ شيءٍ سقطَ فجأةً.
الذكرياتُ.
الوجوهُ.
أسماءُ الذين أحببتُهم.
كلُّ شيءٍ تحوّلَ إلى ضبابٍ رماديٍّ لا طعمَ له، لا معنى.
دخلَ الحارسُ، سلّمني أغراضي:
الساعةُ المكسورة، دفترٌ صغير، ومسدّس قديم.
قال وهو لا ينظر في عيني:
ـ “لم يَعد لديكَ وقتٌ كثير…”
ضحكتُ.
الوقت؟
الوقتُ مات قبل سنوات، حين مات في الظلال.
ورحلت عند التراب وجلستُ على الأرضِ كأنّي عائدٌ من عند الأموات،
وفتحتُ دفترَ الذكرياتِ أمامي.
صفحاتٌ فارغة، وأخرى مليئةٌ بمسدس الهمسات، ورمقت من بين الصفحات صورتها:
همست والذكريات تدق النسيان.
“أنا من كنتُ يومًا إنسانًا.”
“الحريةُ هي وجهٌ آخرُ للموت.”
“الحقيقةُ لا تُقال، بل تُؤلم.”
أغمضتُ عيني…
وسمعتُ صوتَها من بعيد:
ـ “هل ستتركني هناك؟”
همستُ:
ـ “أنا لم أعد شيئًا، أنا صدي قديم من النسيان…”
أخذتُ المسدّسَ القديم بيدي، وسمعت فيه الهمسات.، يدٍي ترتجفُ وانا قابض علي الحديد، لا من الخوف، بل من الطمأنينة.
رفعتُهُ ببطءٍ ،ووجهت فوهه المسدس إلى فمي.
لم أكنُ أبكي، ولم أضحك،
كنتُ أنا فقط… أنـــــــــــــــا.
وهمست لنفسي: الجحيم والمظهر يقودان لدرب وردة السماء؛ هناك حيث هي جنتي الخالدة المستحقة.
وهناك كانت تحلق بين السحاب الصافية حيث تلمع شمس الربيع.
شجرة التفاح، والسلسبيل، هناك حيث النعيم؛
حيث… نبض الحياة..
قلبي …
ملاك من نور، حبيبتي، هي؛ ذات الشعر الأسود الطويل.
وضحكت، و….
ضغطتُ الزناد.
تمت.
سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.
نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.
2 Responses
كان لي صديق.
لا، ليس صديقًا.
كان ظلي.
وكنت أظله.
ولما سقطت، قال لي بابتسامة لا تُنسى: “سامحني… اضطررت.”
اضطررت؟
يا إلهي، كم من الجرائم ارتُكبت باسم “الاضطرار”.
أترى؟
أنا لا أكرههم لأنهم خانوني.
بل أكرههم لأنهم كانوا يعرفون أنني أثق بهم، ومع ذلك خانوا بثقة تامة.
من انت إيها الغريب؟والله ان كلماتك الجمتني ..ابهرتني..
أحمد غريب وانت حقا غريب في هذا العالم المشوة
شكرا جزيلا..