مُنذ متى والأحلام مُقتادةً بكلمةِ 'عَيب'؟ للأحلام فضاءٌ واسع، أوسعُ من عادةٍ أو تقليد، وأوسعُ من تفكيرِ شخصٍ قد اقتادَ بزمَنِه دون تحضُّر..
لم يكن الحُلم وليدَ لحظةٍ عابرة، ولا نزوةَ طفلةٍ تتلاعبُ بها الأوهام.
كان الحُلمُ يسري في دمها، يتغلغل في أنفاسها، يترسّخُ مع كل شهقةِ ضوء، وكل همسةِ ستارة، وكل نغمةٍ تتسلّل من مذياع قديم.
منذ خطوتها الأولى إلى العالم، أدركت أنها خُلقت للمسرح، وأن الخشبةَ هي موطنها، وأن الأضواء تحفظُ اسمها كما تحفظُ الأمُّ اسم وليدِها.
كانت تُطيل الوقوف أمام مرآة الدولاب المتهالك في غرفة نومها، ترفع حاجبًا وتُخفض آخر، تتدرّب على البكاء الصامت، على الضحكة المكسورة، على الدهشة المرتجلة.
في حيِّها، ضحك البعضُ حين رأوا “نور” تعتلي كُرسيًا خشبيًا قديمًا في فناء البيت المفتوح، تؤدي مشاهدَ مختلقة، وتخاطب جمهورًا من العصافير والأوراق المتناثرة.
وسخر آخرون حين تحدّثت عن تصفيقِ جماهيرٍ لم ترَها بعد، وعن جوائزَ ستُمنح لها لأنها تعرف كيف تُبكي الجمهور دون أن تذرف دمعةً واحدة.
لكن كان والدُها يهمسُ لها كلما باغتتها الدموع، وكلما انطفأ الحماس فجأةً في عينيها:
ــ “الضوءُ الذي يسكنكِ لا ينطفئ بالسخرية، بل يشتعلُ بالصبر.”
تعثّرت، نعم… وسقطت مرارًا.. لكنها لم تستسلم.
مرّت بليالٍ جافة لا تجد فيها سوى جدران باردة تحاكي آلامها، ومقاعد دراسية تستهزئ بخيالاتها، وعيون معلّمين يختزلون الحُلم في دفتر علامات.
بعد مُدة من الوقت.. في يومٍ قاسٍ، بعد فشلها في اختبار أداء كانت تضع عليه آمالها، سمعت أحدهم يقول ساخرًا:
ــ “هه، بعضُ الأحلامِ أكبرُ من أصحابها.”
لكنها لم تكن ممن ينسحبون، وينسون أحلامِهم في لحظة..
كانت تعلم أن كل دمعةٍ تسقط كانت تبني داخلها مسرحًا أقوى، وأن كل سقوطٍ يرسم لها طريقًا أقرب إلى الخشبة الكبرى.
في ليالٍ كثيرة، كانت تُغلق باب غرفتها، تُشعل مصباحًا خافتًا، وتؤدي أدوارًا لا يراها سواها.
تتقمّص أرواحًا غريبة، تُحادث المجهول، وتبكي بكاءً حقيقيًا، دون جمهورٍ ولا تصفيق.
ذات مساء، حين اختنق البيت بصوت جدالٍ بين والديها، دخلت الحمام، وفتحت الماء على آخره، ثم جلست على الأرض وأدت مشهدًا عن أمٍ تنتظر ابنها في محطة قطار.
بكت… لا من الحزن، بل من شدّة الاندماج. كانت تدرك أن التمثيل ليس تقليدًا للواقع، بل رحلةٌ نحو أعمق ما في الروح من نبضٍ حيّ.
في يومٍ ما في المسرح المدرسي، حين كانت بالكاد في الثانية عشرة، أُسنِد لها دورٌ صغير لا يُذكَر.
لكنها ما زالت تتذكّر كيف ارتعشت يداها وهي تمسكُ بالستارة خلف الكواليس، وكيف لاحقتها نظراتُ المعلمة بشيءٍ من التردد:
ــ “هل هذه الصغيرة قادرة فعلًا؟”
حين صعدت نور، لم تُخبر أحدًا بأنها كانت تؤدي هذا المشهد لنفسها منذ عامين، وأنها تحفظ حركات الشخصية أكثر مما تحفظ ملامحها في المرآة.
مرّت السنوات، وكبرت الأحلام معها.
تبدّلت وجوه الممثلين من حولها، لكن النور الذي في داخلها لم يخفت، بل ازداد وهجًا، وكأن المسرح يغذّيه لا يستهلكه.
التحقت بمعهد الفنون، وهناك أدركت أن الموهبة وحدها لا تكفي، وأن الفنّ لا يُهادن الكسالى.
درست تاريخ المسرح، وأدوار المآسي، وفلسفة الأداء، وتعلّمت كيف توصل الانفعال بصمت، وكيف تصرخ دون ارتفاع صوتك، كيف تُحاور بالجسد، وتعبّر بالحضور، وتزرع القلق بنظرة.
في إحدى المحاضرات، قال أستاذها بصوته الجهُوري:
ــ “الممثل العظيم لا يعيش الشخصية، بل يُولد معها، ويُفنى فيها.”
شعرت نور أن هذه الكلمات كُتبت لها، لها وحدها.
لكن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود كما كانت تتمنى.
حتى في أحد العروض التجريبية، نسَت جملةً رئيسية في مشهد محوري، وجمُد المسرح لحظات.
نظرت في عيون زملائها، وفي صمت الجمهور، وفي فراغ ذهنها… ثم ارتجلت.
اخترعت كلماتٍ من بقايا النص، وابتكرت شعورًا لم يكن مكتوبًا، فإذا بالمشهد يخرج أعمق مما كان عليه.
بعد انتهاء العرض المُبهر في الكواليس، قالت لها إحدى زميلاتها بدهشة:
ــ “أنتِ لا تؤدين، بل تحيين الشخصيات!.”
أسعدها الكلام بجمَالهِ وألهمها، لكن بالنسبة لها أجمل اللحظات كانت تلك التي لا تراها العيون..
تلك اللحظة التي ترتدي فيها ملابس الشخصية، وتنظر في المرآة فترى وجهًا غريبًا مألوفًا في آنٍ معًا.
تلك اللحظة التي تهمس فيها لنفسها قبل العرض:
ــ “أنا الآن لست نور… أنا هي.”
وفي تلك الليلة المصيرية، حين صدح اسمها “نور” من خلف الستار، لم يرتجف جسدها خوفًا؛ بل كان قلبها يطرق بوابات السماء عزًّا.
سارت نحو الخشبة وكأنها تمضي إلى وعدٍ قديم.
لم ترَ الوجوه، لم تشعر بالأضواء، لم تسمع إلا نبض أحلامها وهو يهدر في داخلها.
وقفت وسط دائرة الضوء.
نطقت أول جملة، فإذا بالمسرح كلّه يُصغي، وكأن الزمن نفسه عقد أنفاسه للحظة.
مع كل حركة، مع كل كلمة، كانت تفتح نافذةً لحلمها كي يتنفس، وتغرِسُ قدميها أعمق في أرضِ المجد.
وحين التقطت آخر نَفَس بعد آخر كلمة، دوى التصفيق كالعاصفة في أرجاء القاعة.
لكنها، وسط كل هذا الصخب، كانت تدرك…
أنها لم تكن تنتظر التصفيق، ولم تعد بحاجة إلى تصديق الآخرين لها.
كانت تعلم، في أعماقِها، أنها أصبحت البطلَ نفسه، وأن المسرح بِمعالمه أصبحَ جمهورها، وأن الضوء لا يُستعار، بل يُولَد في القلب… ويُضاء على الخشبة.
بعدَ فترة.. في أحد الفصول الشتوية، حين تسللت الريح من نافذة المسرح الكبير، وكانت الخشبة فارغة إلا من كشاف يتدلّى فوق المنتصف، دخلت نور في صمتٍ عميق. مشت على الخشبة كمن يعود إلى حضنٍ قديم. جلست على الأرض، وأغمضت عينيها، ثم تمتمت:
ــ “هنا… أتنفّس.”
كانت تعلم أن هذا المكان لا يشبهُ سواه، وأن الخشبة ليست لوحًا من خشب، بل كائنٌ حيّ، يسمعها ويشعر بها، ويخبئ لها أسرارًا لا تُقال إلا على لسان الشخصيات.
ذات مساءٍ آخر، بعد عرضٍ ناجح أُغلق فيه الستار على تصفيقٍ طويل، جلست في زاوية الكواليس تبكي. اقترب منها أحد العمال وسألها مستغربًا:
ــ “تبكين بعد كل هذا النجاح؟”
أجابته وهي تمسح دموعها:
ــ “أنا لا أبكي فرحًا… بل لأنني سأفتقدها.”
ــ “من؟”
ــ “الشخصية… لم تعُد لي الآن، انتهى دورها، ورحلت.”
ضحِك العامل على تفكيرِها.. ليس سُخريةً، بل لأنه لا يفهم شعورها..
كان أصعب ما في الفن عند نور هو الوداع. كانت تعيش كل شخصية وكأنها رفيقة روح، وعند انتهاء العرض، كانت تشعر بأنها تُشيّع جنازة صديق عزيز.
ومع مرور الوقت، بات الجمهور ينتظرها كما ينتظر المطر في موسم القحط. كانت تملأ الخشبة بحضورٍ لا يُفسَّر، وكأنها تُحيل الهواء إلى نغمة، والسكوت إلى صدى.
في أحد العروض الكبرى، حضرت ناقدة معروفة بحدّتها وجفافها. لم تكن نور تخشاها، لكنها لم تنسَ كيف أن كلمات النقاد قد ترفع أو تهدم.
حين انتهى العرض، تقدّمت الناقدة نحو الكواليس، نظرت إلى نور طويلًا، ثم قالت بهدوء:
ــ “أنا لا أكتب مراجعات تُشبِه المديح… لكني اليوم، سأكتب عنكِ كأنني أصف لوحة.”
ابتسمت نور، لا فخرًا، بل امتنانًا، لأنها شعرت بأن الفنّ قد وصل، أن شيئًا صادقًا تسرّب من قلبها إلى الآخرين..!
مع ذلك أيضًا مسيرة نور لم تكن خالية من الخسارات. فقدت مرة دورًا كانت تحلم به، فقط لأن اللجنة اختارت وجهًا أكثر شهرة. بكت يومها كثيرًا، لا لأنها لم تُختَر، بل لأنها شعرت للحظة أن الموهبة وحدها لا تكفي في عالمٍ يحكمهُ التظاهُر واللمعان.
لكنها نهضت، كما اعتادت دومًا، وأقسمت أن تجعل من كل فرصة لاحقة مسرحًا لا يُنسى.
في أحدى المهرجانات، كان الجمهور متنوعًا: أطفال، شيوخ، نساء، رجال لا يجيدون فهم الرمزية أو الفلسفة، لكنهم يعرفون الصدق حين يرونه.
وقفت نور تؤدي شخصية امرأة بسيطة تنتظر زوجها الغائب منذ الحرب.
وفي لحظة صمت، حين انكسر صوتها وهي تنطق “لن يعود”، عمّ الصمت القاعة. ثم سمعت صوت نشيج قادم من الصف الأخير.
لم تلتفت، لكنها علمت حينها أن رسالتها قد وصلت، وأن الفن لا يحتاج إلى تأويل بقدر ما يحتاج إلى صدق..
ثم جاءت تلك الليلة.. التي دُعيت فيها لتمثّل البلاد في عرض خارج الوطن. شعرت يومها بثقل الاسم الذي تحمله، لكنّها أدركت أن المسرح، رغم لغاته ولهجاته، يفهم القلب ذاته.
وقفت على خشبة مسرح غريب، وسط جمهور لا يعرف اسمها، ولا يفهم لغتها. لكنها، حين بدأت، لم تكن نور، ولا كانت ممثلة. كانت الإنسانة التي تُحاكي وجعًا مشتركًا بين الأرواح.
حينما انتهت، وقف الجمهور وصفق طويلًا، لأنها أبهرتهم، ولأنهم شعروا بها في المقام الأول.
حين عادت، سألها والدها:
ــ “ما أجمل ما حصل هناك؟”
فأجابت:
ــ “حين بكى أحدهم رغم أنه لم يفهم كلماتي.”
هزّ رأسه وقال:
ــ “الضوء لا يحتاج إلى ترجمة.”
هكذا، لم تعد نور تطارد الحُلم كما كانت في طفولتها، بل أصبحت هي الحُلمُ نفسه. والمسرح لم يعُد هدفًا، بل امتدادًا لنبضها.
كانت تعلم، أكثر من أي وقت مضى، أن العظمة ليست في التصفيق، ولا في الشهرة، بل في تلك اللحظة التي تلمس فيها روحًا أخرى دون أن تنطق بكلمة.
سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.
نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.