"أنا آسر، شاب حياته أقل ما يقال عنها عادية، وحيد والديّ. لا رغبة لي بأن أروي لكم تفاصيل حياتي، ولكن ما حدث معي في ذلك اليوم قلب حياتي رأسًا على عقب، ومن حياة عادية أصبحت حياتي غير قابلة للتصديق. لذا لا أنتظر منكم أن تصدقوني، ولكن لأنني لا أرغب بأن تندثر قصتي معي، وأطمح لتكون حكايتيي -معها- نجمة أمل لأحدهم وهو ينظر في سماء الكون المعتمة بحثًا عن بصيص نور يعيد أحياء كيانه مثلما عاد قلبي لينبض بالحياة مجددًا بعدما رأيتها، واستفاقت ذاكرتي من سباتٍ دام طويلًا... لكل مصغي الآن، سأحكي لك ما حدث معي بعد ذاك الفراق".
أنا آسر، شاب حياته أقل ما يُقال عنها عادية، وحيد والديّ. لا رغبة لي بأن أروي لكم تفاصيل حياتي، ولكن ما حدث معي في ذلك اليوم قلب حياتي رأسًا على عقب، ومن حياة عادية أصبحت حياتي غير قابلة للتصديق. لذا لا انتظر منكم أن تصدقوني، ولكن لأنني لا أرغب بأن تندثر قصتي معي، وأطمح لتكون حكايتي -معها- نجمة أمل لأحدهم وهو ينظر في سماء الكون المعتمة بحثًا عن بصيصِ نورٍ يعيد أحياء كيانه مثلما عاد قلبي لينبض بالحياة مجددًا بعدما رأيتها، واستفاقت ذاكرتي من سباتٍ دام طويلًا، سأسرد ما حدث لتبقى كلماتي عالقة في ذاكرة التاريخ…
لكل مصغي الآن، سأحكي لك ما حدث معي بعد ذاك الفراق…
بينما كنت جالسًا على صخرة كبيرة على حافة (نهر برانينو)، كنت ارمي حجارة صغيرة الحجم نحو النهر واراقبها حتى تسقط ويجرفها التيار، لا أعلم لمَ أشعر برغبة دائمة وملحة للجلوس هنا وتأمل القمر منفردًا بنفسي! أصبحت هذه أحد العادات في قائمتي اليومية منذ وقتٍ طويل، أشعر برابط كبير بيني وبين هذا المكان لا أعلم سببه…
فجأة لمحتُ طيفًا لشابة على الطرف الآخر من النهر، ولكن كنت شبه متأكد بأنني اتوهم؛ ربما بسبب أنني لم أستطع النوم جيدًا بسبب ذلك الحلم في الأمس… حيث رأيت فيه نفسي أبكي وأنا احتضن جسد فتاة لا استطيع تذكر ملامحها جيدًا، وكانت يدي وملابسها ملطخة بالدماء…
لم أفكر كثيرًا وقضيت باقي اليوم وأنا أحاول تجاهل ما رأيت…
في الأيام التالية بدأ ذلك الطيف يظهر لي بعدد مرات أكثر من السابق، صحيح أنني شعرت ببعض الريبة في بداية الأمر، ولكن الغريب هو أنني لم ارتعب كردةِ فعل طبيعة لإنسان رأى شبح فتاة أمامه…
كنت مستقلٍ على السرير غير قادر على النوم، وكنت أفكر في ذلك الطيف، هناك مشاعر تجتاح قلبي كلما رأيتها…
سمعت صوت طرق خفيف على زجاج النافذة، همست: “من يا ترى؟” ثم وقفت لأتفقد الأمر وتصلبت في مكاني عندما رأيتها تقف على بعد أمتارٍ قليلة تراقب النافذة، وكأنها تنتظر قدومي، هنا لم أطل التفكير وخرجت من المنزل رغم أن الليل سبق وأسدل ستاره الأسود على المكان…
استدارتْ ولحقتها…
وعندما عبرتْ النهر رأيتُ قارب صغير -لم أكترث لمن يكون-، ركبته لأقطع النهر وعيناي لم تفارق عينيها التي كانت تنظر لي بتلك النظرة الغريبة مترقبةً وصولي للجهة المقابلة…
عندما وصلت لها باشرت في التقدم، وفجأة التفتت لليمين وعبرت باب أحد المنازل واختفت…
بقيت هناك أفكر وأفكر… “ماذا يتوجب عليّ فعله الآن؟ بالتأكيد أصحاب المنزل نائمون…” صمت لولهة ثم هتفت لنفسي بحنق: “وإن لم يكونوا كذلك يا أحمق.. ماذا ستقول لهم؟ إن طيف امرأة قادك لهذا المنزل!!! سوف ينعتونني بالمجنون حتمًا…”.
عدت للمنزل وقررت أن أعود غدًا مرة أخرى…
لم أستطع النوم ذلك اليوم، انتظرت أن تشرق الشمس وقمت بواجباتي اليومية من إحضار الماء إلى شراء النواقص التي تفتقدها أركان المنزل، والتي تخبرني بها أمي…
بعدها توجهت للنهر ورأيت العم ناجي فطلبت منه أن يوصلني للجهة الثانية من النهر بقاربه واعتذرت له واعلمته بأنني استخدمت قاربه في الأمس دون إذن مسبق منه، لطالما كان طيب القلب، فأخبرني بأنني يمكنني استعارته وقتما أشاء ثم اوصلني حيث وجهتي…
توجهت لذلك المنزل ورأيت امرأة كبيرة في السن تحمل سلتين فأسرعت وطلبت منها أن تسمح لي بمساعدتها في حمل السلتين؛ لأن هذه من شيمنا… ابتسمت لي وقالت: شكرًا بني…
وكانت الصدمة التي أوقفت الدم عن السريان في شراييني للحظة هي أن تلك المرأة قادتني لنفس المنزل، قلت في نفسي لعلي أتوهم للمرة الثانية؛ لأن المباني تتشابه، ومن المحتمل أنني لم انتبه لتفاصيل المنزل؛ لأن ضوء القمر لم يكن كافٍ لينير مجمل الحي… رغم أن هنالك شعور في داخلي ينبس لي أنني لست مخطئ.
أن كان حدسي صحيحًا، فل هذه مصادفة أم أنه القدر؟
وضعت السلتين على رف المطبخ وما أن هممت بالانصراف -بعد أن شكرتني الجدة ماري كما أخبرتني في حديثنا السابق لي- ظهرت أمامي فتاة جميلة، بدت مألوفة بالنسبة لي لولهة فبقيت اتأمل تقاسيم وجهها، أنها تشبه ذلك الطيف… وفجأة ألمٌ شديد فتك برأسي، ولم أشعر بشيء إلا بجسدي يسقط نحو المجهول ورحلتُ إلى عالم الظلام…
شريط بأحداثٍ من الزمن السالف بدأ يُعرض أمامي ناضريّ كسرابٍ يلوح في الأفق، أنه أنا وتلك الفتاة، أحببنا بعضنا بشدة، لكن عشيرتها رفضت تلك العلاقة بحكم أني لست من نفس العشيرة. وبينما تسللت من منزلها في أحد الليالي لتلتقي بي، لم نكن نعلم بأن اخاها شعر بها وتبعنا… كنا نتحدث ونتأمل جمال القمر وانعكاسه على سطح النهر، أنه نفس النهر -نهر برانينو- ولكن المكان حوله مختلف وكأنه في عصور ما قبل التاريخ، كان أخ إيتانا -اسمها سابقًا- يحمل قوسًا وسهام، وكان يطمع لألقى حتفي إلا أن إيتانا لمحته ودفعتني جانبًا ليخترق السهم كتفها الأيسر، لم استوعب ما حدث، عقلي هتف نافيًا بينما أمسكت بكتفيها وحاولت أزالة السهم برفق ثم ضغط بكفي على الجرح الغائر؛ لأمنع تسرب الدماء. وسمعت أخيها يصيح باسمها… نظرت نحوي بحنو وقالت لي: أحبكَ جدًا ألوليم… هناك لقاء بعد هذا الفراق… الآلهة لن تتخلى عنا، كن بخير وابحث عني حينها…
سكن جسدها بين ذراعي، وشعرتُ بأطرافي تتجمد، ونبضات الزمن تتوقف.
صحت بملء صوتي بينما دموعي كانت تنهمر دون وعي مني: إيتانا لااا، لا ترحلي.. إيتانا… أعدك سنلتقي في حياةٍ غير هذه الحياة، ومع أهلٍ غير هؤلاء الأهل، لن أسمح لهم بأن يفرقونا ثانيةً…
كانت دموعي تحجب عني الرؤية وتجعلها ضبابية، احتضنت جسد محبوبتي بقوة وشددتها إلي، ثم عندما شعرت بيديها تسقط هتفت بقوة رافضًا رحيلها، ووقفت وتوجهت لأخ إيتانا المصدوم وهتفت بوجهه: هيا اقتلني الآن… هيا…
سمعته بدناءة يقول: سأفعل فأنت السبيل لخلاصي الآن…
فتحت ذراعيّ وابتسمت بمرارة قائلًا: لن اترككِ بمفردكِ إيتانا، لن أفعل.
اخترق السهم صدري فقلبي…
رأيته وهو يرمي جسدينا في النهر ليخفي آثار جريمته البشعة…
هنا عاد الظلام ليكسوني، وبعد فترة لا أعلم كم طالت، فتحت عيناي وأول ما رأيته هو عيناها، همست بتعب: إيتانا…
قالت لي: من هي إيتانا؟ أنا كيان، فلترتاح سيدي…
كانت كلماتها كسكينٍ غرس في قلبي، يبدو بأنها لا تتذكر شيء عن حياتنا السابقة، هممت بالوقوف وقلت بغصة: أنا بخير يجب أن أذهب الآن، وشكرًا للعناية بي…
رأيت نظرة في عينيها لم أستطع تفسيرها، وكانت ترغب بالبوح بشيءٍ ما، ولكن دخول الجدة ماري قاطعها والتي قالت: الشكر للإله على سلامتك بني… هل أنت بخير الآن؟ إلى أين؟ يجب أن ترتاح لقد أعددت الطعام لنا…
آسر: شكرًا يا جدة، أعدكِ سأعود في وقتٍ لاحق، يجب أن أعود للمنزل لأن أهلي بالتأكيد قلقون علي…
انصرفت وكلي مشتت الذهن، هل ما رأيته حقيقة؟ هل كانت كيان حبيبتي في الحياة السابقة؟ هل تم قتلنا وتفريقنا؟ أم أنني فقدت عقلي واصبحت مجنونًا يسمع الهلاوس ويشاهدها!!! ولكن لمَ هذا الشعور يغزو قلبي؟ لماذا هناك شيء يرفض تكذيبي لما رأيت؟ يا ألهي أن لمْ أكن قد فقدت عقلي حتمًا سأفقده من التفكير الآن..
خرجت من شرودي على صوت ألفته في لحظاتي الأخيرة في بيت الجدة ماري…
كيان: هيي، أنت توقف…
استدرت لأجدها تجري لتلحق بي ودون سابق إنذار عانقتني وقالت: لقد انتظرتك طويلًا، ولدتُ وكبرت وأنا أفكر بك ومتى ستعود لي من جديد، كنتَ في قلبي منذ الأزل، قبل وبعد أن ولدت مجددًا وستبقى هكذا، سامحني لأنني تظاهرت بأنني لم أعرفك في البداية، أردت التأكد من أنك استعدت ذكريات حياتنا السابقة، ثم أتت جدتي فلم استطع اخبارك، جدتي التي اعتنت بي منذ أن كنت طفلة تركها والداها ورحلا بسبب مرض خبيث، حدث مثلما قلت لي، التقينا في حياة غير حياتنا السابقة ومع أهل آخرون…
قاطعتها وأنا لا أصدق تلك المشاعر التي طغت على جوارحي أكثر مما مضى بعناقٍ وحدنا من جديد…
آسر بهمس: إيتانا…
كيان: ألوليم…
انتهت
• نهر برانينو هو نهر الفرات بالسومرية…
• إيتانا وألوليم أسماء ملوك سومريين…
سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.
نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.