السؤال لا يموت. بل يتكاثر في الزوايا المهملة. ما الأسباب، وخلفية كل واحد؟ لست أدري. هل للتواطؤ جذور؟ نعم. تبدأ بالسكوت. تنمو في التبرير. تثمر جريمة. كل خطأ صغير هو مقدمة لزلزال. وكل تجاهل، جريمة مؤجلة. الجريمة ليست لحظة. بل تراكم. خيط يتلوه خيط، حتى يُشنق بريء.
دخلتُ المدرسة، والأبواب كما هي. لم يتغير شيء سوى العيون. الوجوه ما زالت تبتسم، كأن شيئًا لم يحدث. وحده الباب المؤدي إلى “الحمام” بدا مختلفًا، كأن الزمن انكسر عند عتبته، وبقي الطفل وحده في الداخل.
***
“مش عايز أدخل بالله عليكِ، ناني، سيبيني، خدي سندوتشاتي خدي شوكولاته، وخليني أرجع الكلاس”
قالها الطفل، بعينين واسعتين، كأنهما تحكيان ما عجز اللسان عن نطقه. لكن ناني، بابتسامة خشبية، دفعت الباب وقالت: “خليك شاطر بقى، متتعبنيش كل مرة”
كان “شرف” صغيرًا، ست سنوات إلا قليل، لكنه يحمل في صوته وجع الرجال. في قلبه خريطة خوف، وفي عينيه شك قديم، لا يليق بعمره.
***
في الممر، قال الرجل ذو الكرش المنتفخ ونظرة الموظف البليدة:
“إنت اللي اتأخرت يا واد.. ادخل بسرعة”
فجأة تحولت الخطوات إلى ارتجاف، وصارت البلاطات حجارة تسحقه. الباب أغلق خلفه. والطفل داخله. وحده.
***
في الخارج، الزمن يمشي على مهل. المدرّسة “مس هالة” تشرب قهوتها وتقول:
“هو بيبالغ، عيّل مش سوي”
المديرة تتكئ على الكرسي، ترفع حواجبها وتبتسم كأنها لم تسمع شيئًا. تقول:
“اتضرب بالعصاية؟ يلّا معلش. الولاد لازم يتربّوا”
***
وفي البيت، كانت الأم تبكي. تسمع همهمة ابنها في الليل:
“هو قال هيعمل فيا تاني لو قلت لماما.. قال هيدبح بابا.. أنا مش عايزهم يموتوا يا ماما.”
لكنها حين ذهبت للمدرسة، صدمها الجدار الصلب من الإنكار، وملف محكم الغلق، ومجتمع لا يسمع.
“الولد بيتدلع.”
“الولد مش متزن.”
“الولد.. بيكذب.”
***
قالت الأم:
“أنا ابني رجع من المدرسة مشي زي العجوز. ما بقاش يأكل، ولا يلعب. بيعيط في الحمام وبيقول مش قادر.”
لكن الشرطة لم تصدق. النيابة فتحت المحضر، وأغلقته. وفتحته مرة أخرى. كل مرة، كان الطفل يكبر في الخوف. كل مرة، كان الوحش يفلت، والناس تشيح بوجوهها.
***
في يوم المواجهة، دخل الطفل الغرفة. وقف أمام أربعة رجال. لم يتردد. أشار إليه من أول لحظة.
“هو.. ده.”
رجف صوته. لكن عينه لم ترف. كأن الذاكرة المحفورة فيه لا تقبل اللبس. هو. نفس الرائحة. نفس الضحكة. نفس الكرش. نفس اليد.
***
قال القاضي:
“هل أنت متأكد؟”
الطفل لم يجب. لكنه أمسك يد أمه، وبكى.
***
قال الرجل، ببساطة الموظفين:
“ده طفل.. وماليش علاقة بيه”
لكن الدادة شهدت. ثم أنكرت. ثم اختفت.
المدرّسة قالت:
“ماعرفش حاجة، ولو عرف كنت بلغت.”
المديرة قالت:
“أنا مسئولة عن الإدارة، مش عن الحمّام.”
كلهم تواطأوا. كلهم أداروا وجههم عن الجريمة، كأن الطفل ذنب يجب التستّر عليه، لا مجني عليه.
***
في المحكمة، في الثلاثين من أبريل، جلست الأم تمسك صورة ابنها. لم تكن صورة عادية، كانت بطاقة النجاة. فيها وجه الطفل قبل، ووجه الطفل بعد.
قبل: يضحك.
بعد: ينظر للأرض.
***
“كم مرة اتوجع؟”
سألت الأم، بلا صوت.
“كم مرة استغاث وسكتّوا؟ كم مرة رجع ببطنه موجوعة؟ كم مرة دخل الحمّام وخرج طفل تاني؟”
***
سألت النيابة المدرّسة:
“ليه متدخلتيش لما الولد قالك؟”
ردّت، بابتسامة ساذجة:
“ماقالش حاجة.. وبعدين، الولد مش طبيعي أصلاً”
***
هم لا يرون الجريمة. لا يسمعون صراخ الصمت. لا يشمّون الخوف. لكن الطفل.. يرى.
***
وفي البيت، لم يعد شرف يطلب الدخول إلى الحمّام. صار يرتجف إن اقترب. تقول أمه:
“بيرجع في هدومه.. مش قادر.. بيقول الباب بيقفل عليه”
***
وحين سألوه مرة:
“بتحب إيه يا شرف؟”
قال:
“بحب ماما، ولما تكون الشمس طالعة، ولما مفيش حمّام، ولما محدّش يلمسني.”
***
وفي الليل، كانت أمه تدعو:
“اللهم أرنا عجائب قدرتك. اللهم خذ لنا حقّه. اللهم اجعل كل متواطئ يرى فعلته في ولده”
***
لكن الطفل لا يعرف معنى “عدالة السماء”، يعرف فقط أن الباب يغلق، والضوء يختفي، والرجل يقول:
“خليك شاطر.”
***
وفي آخر الجلسة، لم تتكلم الأم كثيرًا. وضعت صورة ابنها أمام القاضي، وقالت:
“أنا مش عايزة دهب. أنا عايزة ابني يرجع طفل.. بس خلاص، فات الأوان”
***
غابت الأصوات، وغابت الوجوه. بقي الطفل، يمشي في الطرقات، يمسك يد أمه بقوة.
وسألها، بصوت مكسور:
“هو لسه في حمّام هناك؟”
فقالت:
“لأ يا حبيبي.. خلّوه نور.”
لكن قلبها يعلم أن النور وحده لا يكفي.
***
الحمّام مظلم، رائحته خليط عطن وصابون رخيص ودم. صدى مياه تقطر، كأنها تطرق باب العقل، تذكّره بأنه لا مهرب. جدرانه مرتعشة، كأنها شهود عيان تبتلع صراخ الصغار وتصمت.
قال الرجل، وهو يغلق الباب خلفه:
“قولنا كام مرة متعيطش؟ أنا بحبك.. بس انت مش بتسمع الكلام.”
يقترب. الطفل يتراجع. البلاط بارد، يرتعش جسده، ركبته تصطك. قال هامسًا:
“أنا عندي أو. ف يا مستر.. مش قادر أعمل بيبي.. “
ضحك الرجل. كانت ضحكته كزئير ذئب تاه في هيئة بشر.
“انت مبتحبنيش بقى.. ما كنتش فاكر إنك قليل أصل كده”
***
من خلف الباب، الدادة تسمع. لا تتحرك. تنظر لساعة يدها وتعد الدقائق. حين يفتح الباب، تمد يدها للطفل كأنها تسحبه من حفرة جهنم.
“امسح وشك يا حبيبي، متعيطش”
يدها تفرك وجهه بخشونة. لا حنان فيها. كأنها تمحو الأدلة لا الدموع.
تلبسه، تغلق زِر قميصه، ثم تسأله كأن شيئًا لم يكن:
“عايز شوكولاته من الكانتين؟”
الطفل لا يرد. عينيه جامدتان، كأنها صارتا عدستين متشظيتين، لا تبكيان.
***
في الفصل، “مس هالة” تتحدث عن الحروف الهجائية، بينما الطفل ينظر إلى سبّابته المرتعشة. قال فجأة:
“أنا مش عايز أجي تاني.. هو بيعمل كده فيا ليه؟”
قالت المعلمة، دون أن ترفع نظرها عن الكرّاسة:
“ما تقولش كده.. مستر سامي راجل محترم، ودي مش أول مرة تتهم حد”
اقتربت منه، همست في أذنه:
“لو فضلت تكذب، ممكن يحصل لحد من أهلك حاجة، فاهم؟”
***
في البيت، كان الجدار أقرب من الناس. الأم تضع الماء على جبهته. تقول له:
“قولّي، يا قلب أمك، مالك؟ مين زعلك؟”
قال، بصوت لا يسمعه أحد:
“أنا.. رجلي وجعاني.. ومش عايز أنام.. الباب بيقفل لوحده في الحلم”
الأب منشغل بمكالمة. الجد يقول:
“دلع، ده جيل بيخترع الحكايات.”
لكن الأم ترى في عينيه مرآة شيء انكسر. شيء لا يُصلَح.
***
في المدرسة، المديرة تجلس على كرسيها الوثيرة، تعبث بالأوراق.
“تُهمة اغتصاب؟ لا سمح الله! شوفتي آخرتها إيه؟ التعليم بقى باب للبلطجة.”
قالت “مس هالة”:
“ده العيّل ده عنده خيال.. أنا طول عمري شاكة فيه.. بيهرب من الحصص ويدّعي المرض.. ومرة قال لي إن الحيطان بتتكلم”
قالت المديرة، تضحك:
“يبقى أكيد عنده مس شيطاني.. أو طفل مدلّل زيادة عن اللزوم. سيبيه يتربى، البلد دي كلها عايزة تتربى من أول وجديد.”
ضحكوا. كأن الضحك مسكن. كأن الطفل مجرد عرض مرضي، لا ضحية.
***
في التحقيق، الرجل يجلس واثقًا. ربطة عنقه مشدودة، قميصه معطّر. يقول للمحقق:
“ده طفل.. والطفل ممكن يقول أي حاجة. أنا مالي؟”
يقدم المحامي أوراقًا. يُقال إنها شهادات حسن سير وسلوك. وثائق تشهد على رجولته الكاملة، لا نزواته.
يبتسم وهو يخرج من الجلسة. كأن العدالة قطة مكسورة الأرجل، تتنفس فقط لتُرفَس.
***
الشعب؟ الشعب يشاهد الخبر في صمت. يبتلع القهوة ويهمس:
“هيحصل إيه؟ بكرة يتلغي الحكم، عادي.. البلد كلها بتدفن الجرايم تحت البلاط”
طفل يذهب، طفل يأتي. والدم لا يزال دافئًا تحت الشمس.
***
قال جد لأب، في جلسة مسائية:
“المفروض المدارس دي تتحرق. تعليم إيه ده؟ بيصرفوا على الطوب وينسوا الإنسان.”
قال الأب، ساخرًا:
“يعني نسيب الشغل ونتابع الحمّامات؟”
قال الجد:
“لو كان ابنك، كنت عملت إيه؟”
سكت. لفّ سيجارته ببطء. تأمل دخانها وهو يصعد. وقال:
“ابني؟ ابني ما يعيطش عشان كده.. ما بيربوش عيال زي البنات.”
***
وفي المحكمة، حضر الشعب. ليس كله، بل بعض منه. القلة التي لم تفقد إنسانيتها بعد.
الأم وقفت كأنها تمثال لم يكتمل نحته. عيناها حفرتان تنزفان الحريق.
قال القاضي:
“هل تعرف المتهم؟”
أشار الطفل. صمت القاعة. الهواء خاف أن يتنفس.
قال القاضي:
“هل حدث ما تدّعيه؟”
قال الطفل:
“كل يوم.. نفس الباب.. نفس الرائحة.. نفس الكلمة.. نفس الوجع”
صرخة صامتة. كأن الزمن توقف. كأن المدينة انشقت وبصقت جريمتها على وجوه أهلها.
***
خارج المحكمة، رجل يقول لصديقه:
“3 كيلو دهب عرضوهم على الأسرة. والله لو أنا، كنت خدتهم وسافرت بيهم برّه”
قال الآخر:
“وأنت ضامن إنهم هيسيبوه في حاله بعد كده؟ ما هو لو باع، بقى شريك”
ضحكا. ومشيا. وابتلعتهم الزحمة.
***
في بيت الطفل، الأم تدعو:
“اللهم اجعل كل يدٍ خذلته ترى ذاتها في مرآة العذاب. اللهم اجعل هذا الولد نبيًا للوجع، يصرخ بوجه العالم الصامت.”
الولد ينام. لكنه في نومه يرتعش. باب الحمّام يُغلق. الغول يعود. الصوت نفسه يهمس:
“خليك شاطر.. أنا بحبك.”
يستيقظ باكيًا. الأم تضمه. لكن الحضن لا يكفي.
***
وفي عمق المدينة، داخل قلبها، هناك باب مغلق. خلفه طفل. وخارج الباب، أمة تتظاهر بالنسيان.
سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.
نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.