الجبال الحمراء- بعنوان (الأسرار والحصار) وهو (الجزء الثاني) -من-الكتاب الأول من سلسلة الحكايات القديمة المفقودة. https://ahmed11gharib.mystrikingly.com/
تقديم
I
(تخاريف )
رنت أجراس الحداد في سماء العاصمة(سينسار) ليومان بلا توقف.
ومن شرفة البرج الهائل العالية المسمى ببرج(طائر القمة)، أخذا الحورى(باتريك ويلمون) يجوب عاصمة المقدسين بعيون وشهوة طفل صغير، للعاصمة وجهين من الأعلى، الذهب والفحم، فالمدينة الجديدة الأنيقة بمنازلها الطويل والتي بنيت علي التلال العشبية وعلي أنقاض العاصمة القديم برزت المدينة المسمى بين سكان ساكنيها باسم المدينة السفلية الغارقة والتي قد غمرها فيضان نهر (قاي) في زمن الفيضان الذي انتهاء بعد بناء السد المعلق، وبالرغم من وجود برك المياه فيها حتي الأن، ألا أنها تزداد بالسكان يوم بعد يوم.
كان الوضع في العاصمة (سينسار) مؤسف للغاية منذ أن اغتيل المقدس الراحل.
فشوارع العاصمة والمنازل والأبراج قد اكتست بالأعلام السوداء .الحداد، حتي الأحجار تبكي في الظلمات.
قالها الحوري العجوز(باترك ويلمون)بعيون جامدة متصلبة يملئهما الحزن والخزلان، كان عقل متخم بالضلالات، ونفسه مصابة بالإكتاب والإحباط والأسف، لقد مر يومان عليه وهو قابع في فراغ هذا المحبس العلوي، أن ساجنيه يعلمون بأنه قادر علي الفرار من كل السجون، ولذلك اقتدوه ألي برج( طائر القمة)، فهو محبس مناسب لرجل يخشي المرتفعات، تلك الوشاية لا تخرج إلا من شتك (مركوس) اللعين، فـــ(هدوين)أحمق بما فيه الكفاية.
لقد مر يومان، يومان كأنهم زمن طويل، زمن توقف وتجمد كحزن الموت، لقد مات رفيق الرحلة، وقلبه يعتصر بالحزن منذ ذلك، وكأن الحزن توحده مع روحه نفسه، فصار الحوري العجوز كأنها عالق بين الحياة والموت، أنهم فقط يومان، نهارين من الألم وليلة طول بالكاد انتهت، وآخرة قادمة سترفض المرور بكل تأكيد، وأن مجرد التفكير في قدوم الليل بظلمته وظلاله يصيبه بالإرهاق والتعب، والأكثر منهم هو الأحلام اللعينة، خصوصنا مع عدم تناول العشبة.
يومان فقط، والليل أسود مظلم ملي بالظلال، يومان فقط، كأنهم دهر من النسيان، لقد عادت أحلام السنوات الحزينة، لقد عاش الحوري العجوز الكثير من الليالي الصعبة في شباب حياته، والتي اقتربت من نهايتها، الا أن الليل الماضي كانت الأطول علي الأطلاق، حيث الأحلام من زم النسيان عاد تدق مضجعه، ومعها عاد الصوت الغائب، صوت شبح الأشيب الذي يزامن عقل منذو قتلة الحوري العجوز عند اكتمال آخر أقمار مواطنه.
يومان فقط، أنهم يومان بالفعل.
وتردت الكلمات في الغرفة، كصدي صوت أبراج الحداد التي تجلجل من إلا شيء.
يومان منذ أن أنهار كل شيء، يومان منذو أن أعلن مارق العاصمة الجديد تنصيب نفسه كمقدس جديد لدولة(كوار جينا) المقدسة، كل شيء بعيد، الذكريات تعيد نفسهاً الآن، الماضي يتكرر مع الأيام الآن، لقد قراءة في التاريخ، نفس الكاس، ونفس الفعل ونفس الأمر، كل شيء لعنة وبداء في بغتة، فعند بداية عوقة الصباح، حيث انفجرا شوارع العاصمة(سينسار) بأمواج بشرية كثيفة من الرافضين لذلك القرار، وكان الحوري(باتريك) في الصفوف الأولي، حيث وقف الدوق(ادميوف)، والجسف(هريون)، والمجكتر(سميوف)، ولكن بعد عوقات قليلة بداءة الاشتباكات بين تجمع الرافضين، وحراس مارق العاصمة الذين خرجوا في أزيائهم السوداء، فسادت الفوضى شوارع العاصمة بعد عمليات كر وفرو، وبعدها بقليل تردد أشعة بين الجمع بأن مجموعة لصوص الدرع الحديدي قد سرقوا مخزن العاصمة والخزينة النقدي.
فقرر المارق فرض حالة الحظر الشامل، وتطبيق قانون الشغب العام الذي ظل حبيس أدراج العاصمة، لمدة تتجاوز السبعون عاما، منذو أن أدخله المقدس(فيدوس) المحبوب ألي داخل الأدراج المقدسة مرغماً، بعد أن غرقت عاصمة البلاد(سينسار)في السلم الكبير، والذي جاء بعد نهاية عشرية الحرب الأهلية، والتي كادت أن تمزق حلم المقدس(قاي) الأول في بناء دولة واحدة قوية تقف أمامهم في معركة النهاية، (راكانوس دولسيس دولو جان)المعروفة أيضاً بمعركة المعارك الكبرى، أو معركة الأمة الأخيرة، التي ستفصل بين عالم البشر وعالم الكائنات، أو هكذا يظن دوقات المجمع المقدس هناك عند عين منبع نهر الطائر المقدس العائم.
هذا كان في الماضي، حينما كانت الوحدة هي الهدف الأثمة والأهم، الذي ذرعه المؤسس (أوريس) والمؤسسين الفجر القدامة، حين بداء بزرع البذور الخير في طين الأرض، وظنه بأنهم سيحصدون الخير من تلك الجنة، ولكن أحفاد المقدسين زرعوا في تلك الجنة المزيد الأشياء، كالظلم والفساد والكراهية والفرقة، وتلك الأخيرة تعم بذورها في كل شبر في أرضهم، الفرقة عمل الحياة، والآن بذور تلك الفرقة التي دفنت في طين أرض المقدسين بشكل لم يسبق له حدود، خرجت بذورهاً في نابته سامة قوية، قوية لأنها تبث معهاًً المزيد من أنواع مختلفة، حتي أصبحت علي شكل خيانة.
لقد مات المقدس، والليلة مظلمة سوداء قاسية، تنبت بأحلام فاسدة.
ففي صباح اليوم التالي العاصف التي لم تخرج فيه ضوء الشمس حداداً علي روح المقدس الراحل، خرج على العاصمة ذراع المارق السليط(هدوين) براسه الأصلع ولسانه الفظ، ليقف أمام درجات تمثال الفارس ذو القلب الشجاع، والذي لا يمت لقلبه الأسود بصلة، ويلقي الخطاب اللعين، والذي أسمها(باتريك) بعد ذلك باسم (خطاب الخيانة) وقال لسان المارق الأصلع اللعين.
وبعد ذلك بقليل دخل الجيش المقدس العاصمة للمرة الأولي، وبتوقف فجاءة حركة السير المروري في شوارع العاصمة (سينسار)، من أتجاء البحر والميناء أيضاً، وأغلق حرس العاصمة البوابات الحديدية الخمسة على مداخل السور، كما أغلقت المتاجر الداخلية والخانات بمرسوم مختوم بطائر النهر المقدس، فغادر باعت الخبز والأرز والفواكه والشعير والملابس والأحذية أماكنهم المخصصة في سوق العاصمة الكبير، وأجبر الشحاذين في عوقات الحظر الأولي على الفرار مرغمين، حينما فتكت مجموعة من الحراس بتجمع من أهالي العاصمة، والذين كانوا قد أخذوا يهتف للمقدس الراحل عند أبواب دار مجمع الأديان بعد صلاة الصبيحة، فسقط من المتظاهرين عشرات الموتى والجرحة، وقد قبض الحراس عليهم جميعاً، واقتادوهم إلي سجن العاصمة، وبعدها بعوقات تمت مداهمة دار الدين ودار العلوم ودار الحكمة بمجموعات وفرق مختلفة العدد من الحراس المتخصصين في تطهير أماكن الشغب، وتم سجن كل من رفض مغادرتها، ومنذو هذا-خلي ميدان الشهيد (كيرمريوس) من جميع الأبناء، بعد دعوات باهتة للتظاهر، انتهت بقطع رؤاس أكثر من خمسون رجل، و تم تعليق رؤاس علي رمح طويلة وسط الميدان.
وبعد تعليق الرؤوس، اختفاء جميع سكان العاصمة.
كأن سكان العاصمة قد تبخروا في الريح كبخار بلا لون ولا رائحة، فالشوارع التي كانت مكتظة عن بكرت أبيها أصبحت الآن خالية من أي فرد، فقط حراس العاصمة بملابسهم السوداء، والذين أخذوا يمشطون الشوارع الرئيسية والفرعية بخيولهم وسيوفهم، وغضبهم الجهوري المستعد للنيل من أي شخص يخالف مرسوم الخطاب.
نظر(باتريك) باستعداد لغروب شمس يوم آخر غاب ضوئها، فمن ارتفاع البرج الهائل المحلق في الفضاء، يبدو الغروب مختلف تماماً، بالأخص مع رؤاس الجثث الميتة الوهمية، والتي نبتت كالرماح من أحجار الجدران، فكان نصف قرص الشمس الوهمي الضاحك بسخرية، يرسل عليهم وهج برتقالي في خيوط طويلة، تمتزج بالضياء والغيوم والرماد و التي تتوسع رقعتها مع كل فنية تمر، حتي أتسعت لتكأد تبتلع صفحة نهاية السماء، والتي جسمت فيها عدد لا يحصي من عيون الموتى، والتي أخذت تحدق فيه بغضب لا يوقف، وسمع في مخيلتها أصواتهم يصرخون كالأجراس التي لا تنتهي علي الأطلاق.
(قاتل، قاتل، قاتل، قاتل).
ثم تذكر كلمات معلمه أشيب الشعر، وهو يدور سكينة الأسود المغموس بالسام في كبدة العتيق:
فكر (باتريك ويلمون) بيأس: الموتى والظلال هم عنوان وأصل الحداد.
الليل والنهار، والشمس والقمر، هي أية الحياة في موطنه العظيم الذي يعرف في بلاد المقدسين باسم بلاد ما وراء سلسلة جبال (هوريا)، ولكن شعب المقدسين هؤلاء، لا يعلموا أي شيء عن بلادها العتيقة، فهناك تخرج الشمس ملتهبة حارقة ككرة من لهب جحيمي بعد نهاية ليل يجمد القلوب، و يحصد أرواح العالقين البؤساء، فقط حينها يصلي( المهفان)[1] الأعلى صلاة ما بعد أكتمل الغروب، وكذلك بداء (باتريك) يصلي، أغمض مقلتيه، ثم وضع يده اليمين مطبقة الأصابع فوق موضع القلب، واليسرة مطبقة الأصابع إلا من الأصبع الأوسط، والذي يتوسط ما بين العينين المرهقتين المتعبتين:
[سيري في عروقي يا قوة الصحراء، وأحمني من هول لهب المارق الملتهب، من الصخر صعد المخلص للأبدية الأخيرة، والي الصخر نرقد نحن أبناءك بسلام من بارك البركة في متاهة الصحراء، الشمس والقمر من أية الحياة، نهر الأيمان يشق الرمال، ديدان المارق تمنع روحي من بلوغ مقصدي، قلبي الحجري يقويني في لهيب الخادع، بروحي أقاوم الغد، وفي طريق الغد أحفر أحلام على رملي ، بروحي وقوة أيمان سأعبر صحرتك].
ورددهاً، مرة، ومرة، وأنهاءها بعد أن مكث الظلام على خلفية العالم.
نظر بنصف عين للأعلى، فوجد بأن وجوه الموتى ما ذالت في السماء تحدق فيه، ونظر للأسفل فوجدهم يخرجون من بين الأبراج والشوارع في أعداد لا يحصيها، وسمع أصواتهم بمسمع الخيال، تصرخ وتتوسل وتصيح وتتألم، وترقد وترتجف وترتعد وتبكي في مزيج من الخيالات المتعقبة، ثم تضحك، تضحك الوجوه علي النقيض، تسخر منه، تلعنه، تستهزأ به، وبغتة بداء الموتى في الشوارع يحتفلون، يرقصون بجنون، وسمع(باتريك) الطبول، والمزامير، فحلقت الموسيقي الشنيعة الأجواء، وراح أحد الموتى الذي يذكره(باتريك) بالغناء، وبلغت مسامعهاََ كلماته الغير متناسقة، وبعين الخيال شاهد أحد الجثث عضمي الوجه يقبل جثه أنسوية لفتاة قصيرة ترتدي فستان عرس.
زفر(باتريك فيستر) مفكرنا وهو يرمق هذا العبث الذي خلفه عدم تناول العشبة الحمراء ليومين وأكثر: اليس من حق الموتى الاحتفال، وأن لم يحتفل الموتى، فمن يحتفل، باسم الرب العلى في الأعالي رب نمور (هوريا).
هراء ذكريات الموتى هذا يلحقه منذو أن ترك بلاده، وسعي لما هو أبعد من السراب، حيث ذهب ألي المجهول، بل ذهب الا الجحيم نفسه، مرت برهة، وبرهة، وبرهة، ثم أشعل شمعة تحمل رائحة عطر الياسمين الفواح القوي، بعدما رفضت السكينة الولوج لقلبه الذي أخذا يدوي كجرس العاصمة، ضن، دون، ضن، دون، ضن، دون، فراح(باتريك) يردد كلمات ما يعرف بكرامات صاحب الخطوات الحرة العظيم، وكان قد تعلم هذه الكلمات من الفاراك[2] الأعلى(أيدوران) قيم معبد الظلال أثناء هربهم معنا في سراديب قلعة (الأشواك)، حدث هذا قبل خمسة عشرة صيف، من رحلة (باتريك) التجولية، والتي شملت معظم أنحاء قارتين (سينانار)، و(فينامار).
الا أن(باتريك) لا يامن بمعتقدات أبناء معبد الظلال هؤلاء القابعين عند عجيبة (الفراغ الهائل)، وأن عجز عقلة الكهل عن تصديق بعض الأشياء في قارتهم، وبالأخص تلك العجائب الواقعة عند نهر (كهوف ميدكوف)، و(بحيرة الأرملة المالحة)، وبلدة (الوجوه الملعونة)، خلف(العيون الجافة)، الواقعة بالقرب من طريق (وادي ماسكيس العظيم).
((يا من تملك نور السماء أرشد قلبي الواهن في بحور اليأس و الظلال، أضاء بوهج نور نجوم طريق درب، أحفظ لسان من الخطاياً، ثبت ذراعي وقوي سيفي المشتعلة، قوي نيران بنور المعظم في الظلمات، وأرسم بخطوات بالأيمان، و أحمني من أهوال الظلمات بنورك، الليلة طويلة وقلبي يضعف من دونك، قوني وأحمني، وكودني ألي مبتغيا، خطوتي وهي لك، ومجدك عنواني، ثبت ذراعي وقوني في الأهوال، سيفي المشتعل ينورك المعظم سيمحي الظلمات من حولي، بنوك المعظم وأيماني سأسلك دربي بخطواتي، مجدك مجدي، وهدفك هو قدري، الكي يا صاحب الخطوات المعظمة)).
وبرغم من كل ذلك، لطالماً وجد(باتريك) في كلمات صاحب الخطوات الحرة العظيم، شيء ما، شيء يبث الطمأنينة ألي روحه حتي تستحوذ علي قلبه المرتعد، فقلبه مثل عقله الآن، والأثنين معناً في حالة من التضارب والفوضى المتصارعان، وذلك منذو أن اقتادوه بعوقات بعد أعمال شعب العاصمة التي تلت خطاب لسان المارقة الأصلع ألي مسكنة، ألي سجنه، بل إلي قبرة، أو هكذا يشعر، ومنذو هذا يرقد (باتريك) في الغرفة العالية لقمة البرج الهائل المعروف باسم {البرج الذهبي} مع أن أتساع الغرفة أكبر من مجرد أي غرفة عادية، الا أنه يشعر بالوحدة برغم تواجد الأموات والخيالات، الذكريات والأحلام.
أنها لم يتناول عشبة الدموع الحمراء، ومع عدم سريان عناصر العشبة الغنية في عروقه، عادت الخيالات القديمة لتدق عقله مجدداً، السكون، والدموع، والظلال، ثم الموتى، بداء الجميع في دق باب الألآم، ضحك بعد ابتسامة، قبل أن يسبقهم طيف مرعب من ماضي سحيق، ثم تذكر أغنية “ظل المساء” فرددها في سره وقلبه :
[لقد جاءت ألسنة السماء السوداء لتمكث يا من ترث السيف، الليلة كاحله مظلمة ترتعب لها القلوب الهشة، والشر بعد الغروب يستيقظ-ولا ينام حتي مطلع الفجر، صراخ وعويل وسعير، والوقت قد حان لتستل سيف الأيمان الملتهب من غمد الصخر، فمنها تنبعث نيرات وضياء الشمس و ماس القمر، فحينها فقط تعم بآيات الطمأنينة والسكينة في أعماك القلب].
أنقضت شمعة بعد دعوة، وأثنين بعد أغنية، وثلاثة على ذكره أليمة، وأشعل شمعة رابعة لم تحمل أي رائحة عندما اكتمال بزوغ عوقة الذئب، حيث مكث (باتريك) في حلم من اليقظة، جسده مشدود كمسمار من الصلب، وعقله دلف لأبواب في أبواب تعقب بعضها، وكلها تحمل من الخيالات المتعاقبة الفاسدة ما يكفي لتخريب أقوه الأدمغة، وفي ممر الأبواب اللانهائي سحب في الهواء بلا أجنحة، هناك دق (باتريك) باب، في باب ، في باب، وسمع طرقات طبول متتالية في الباب الأخير تدوي، نون لون بون لونك.
ثم دلف ألي ذكرى مختلطه بحلم قديم من أيام خوالي الشباب، حلم لم يعيشه مطلقاً، وأن تمني في قرانه نفسه أن يحذه بذلك، وفي ذلك الحلم المختلط، كان (باتريك) يقف هناك عند البحيرة التي تلونت بمياه أرجوانية الشكل سطحها راقص كالغيوم المطر في أعالي السماء، وعند شجرة ذات الألوان بفروعها المثمرة، غاني المغنون مع بعضهم البعض أغاني من الماضي و من الحاضر والمستقبل:
[شكلها صافي كالنداء عند مطلع الفجر، شعرها كالذهب يبرق مثل الشمس، و في المساء ترقص علي شموع فضية تلعق ضوء ماء القمر، ولكن حينما يأتي البرد بعد أطول غسق تسود كوابيس البؤس].
كانت تقف أمامه رفيقة وحب شبابه، (رحيل) ذلك أسمها، كانت بيضاء جميلة طويلة نحيفة، مناسبة تماماً لتكون زوجته ومؤنسة روحه في الليالي، ولكنه القدر، وذلك البغيض أشيب الشعر، والذي أرسل شياطين هوريا لسلب حياته بعد أن علم السر الأعظم، ولكنهم سلبوا بدلا من ذلك حياتها هي، لقد أقسم علي جثتها الباردة حين قبض أصابعها الدامية بالانتقام، وقد أنتقم منهم جميعناً، أراق حياتهم جميعاً بعد أن عذبهم جميعاً، ولكنه لم يحصل في النهاية سوء علي حياة الوحدة، حياة البرد، حياة بلا معني.
أما هي فمالئتهاً الحياة في الحلم، شعر(باتريك) بدافئ هذا حين قبض علي أناملها الطويلة البيضاوان النعمين كالحرير، رمق مقلتي عيونها، فهمس في خيال من بين الخيالات: رباه أنهم بديعين كالماس السماوي.
بديعين ونقيتان، وأن مال السماوي أكثر لزرقة الماء، وأن أنعكس عليهم ماء البحيرة البراق، أصبح لونهم زمردي و برتقالي وبنفسجي، فأحمر فأرجواني، تتبادل الألوان عليهم في تدرج متعاقب، وأن غاب ضي القمر، وبريق البحيرة عليهما، عادل لون مقلتيها ألي الأصل، فكان أخضر صافي كأوراق أشجار الغابة في عز الربيع، وعلي ضفاف البحيرة المليئة بالعشب الأرجواني ، رقص معها، ودار معها لعوقات وعوقات، فتغير العشب ألي رمل والي صخر، صعد معها ألي أعلي الجبال وحلق في السماء، وغاص في أعماق المياه، أنهم معنا الأن، وتحت غطاء ساحر ممزوج من الأغاني والموسيقي.
تبتسم له، شعرها فضي قمري خافت يمتزج بالذهبي مع الشمس، وأن سيطر الأرجواني علي الموجودات، أنها في (البحيرة الأرجوانية)، حلم كل العشاق في الحكايات تسمي (بحيرة الأحلام)، فالي هنأ يأتي مغنون بلد الأغاني لترديد أجمل الأغاني، دار معناً في رقصة الطيور على أغنية “الدب الأشيب”:
[أنت دب بدين يا سيدي، والحياة تخر منك كالماء من جوربي، لا تنظر للرب في الأعلى، فقت طير من فوق الجبال و حلق يا دبي الأشيب، هناك ألي الوادي الأخضر حيث تجسم الطيور علي زمرة أوبال بحيرة الطيور ].
وحلق معها علي أغنية “صقر السماء”:
[قالت له الحورية الفاتنة وهي تتلوي في مياه السحر: أسمك هو صقر، والجميع يعرف بأن هذا الاسم يزلزل الجبال والبلدان، وحينما تهبط علي الأرض يركع الغلمان، و جنحاك قويان تغزو بهم الفضاء و مخلبي كاسر يمزق الأعداء، ولكنك طائر في المساء تنتهي، وحياة الليل لا تصل لك].
وأغنية “حكاية لقاء الفارس والتنين”:
[قال التنين: أنا السيد هنا أنا التنين من أنت أيها الفاني لتقف في وجه نيران الجحيم، فرد الفارس: أنا الفارس- أنا اليقين- أنا التحدي في قلب الجحيم، قال التنين: لماذا دالفت وأنت تعلم علم الفانين بأن أرضي محرقة الغازين، رد الفارس: أن هذه الأرض موطني وفيها سالت دماء أجدادي ومنها نبتت بذرتي، وحقي أن أسترد موطني من أجل حلم أطفالي، قال التنين: أن لي جناحين احدهم في الشرق والآخر في الغرب، فرد الفارس لي سيفان الأول شق الشمس، والتاني أخفى القمر، وفي زمرة من بين النهار والليل رقص الفارس والتنين الرقصة الأخيرة].
رقص ورقد. ولكن(باتريك) لا يتعب مطلقاً، ففي الحلم أمتلك جسده القديم الشاب، ثم قبلها علي شفتيها الورديتان، قبلة طويلة كطول الليل الساحر، واغمض مقلتيه ليذوب في مزيج من العسل والخمر والحب والحنان والعشق، ولكن قبلتها تلك أستحال ألي لا شيء، فحينما فتح مقلتيه وجد نفسه محاط بالتراب والرماد، أنه رماد الدوق الأكبر الوكسيسي: (ريدفور موفلستس فلاس وكسس)، لماذا لم يدون الدوق قصته تلك في مجلداته الخالدة والتي تحمل أسم (رماد الحب)، لقد ماتت(ريمان) وهو كذلك. السيف والقلب .
أسم أروع من (كوار وجينا)، و(مرين والوريث) والأسماء الآخرة الغبية.
النهار كالحليب والجليد، والشمس دافئة ساخنة ساطعة كالذهب والجمر والجحيم، أغلق وفتح مقلتيه، مرة ومرة، فتبادلت الموجودات على النقيض، وكل ما كان موجودناً تبخر واختفاء، ولم يسمع المغنيون يرددون الأغاني، حتي أن (البحيرة الأرجوانية) قد تلاشت، ولم تعد ألا رمال حمراء يغمرها ضوء الشمس الساطع الذي توهج في مقلتيه، حينما أخذا يبحث عنها، ولكنه لم يجدها، الأحلام تنتهي علي الدوام، تنتهي كأي حياة، مرة برهة ففنية فلحظة، فدقة قلب فآخرة حتي تعودت عينيه علي الموجودات الجديدة، فكر(باتريك): رمال تلمع كالذهب وملمسها كاللهب في تجويف من الصخر، هذا موطني، عرف المكان وأن رفض عقله تصديق ذلك، أنه عار تماماً كيوم مولدة يسلك طريق من الرمل جلد يحترق ويذوب كالشمعة، أنه الخط الطويل أو كما يطلقون عليه أبناء هوريا(مسيرة الغفران)، مسار الهلاك أو النعيمة الضلال أو حكمة الموت أو الحياة الآخرة، فيقينك يقودك ألي مصيرك.
ومن تلقاء نفسه أرتطم بالرمال وراح جسده المحترق يغرق بين أنياب وحش الصحاري العملاق، غاب في الرمال هناك لفانية وفانية حيث رقد في متاهة الأبواب اللانهائية، ولكنه سمع صوت مألوف يتردد من بين ذرات حبيبات الرمال المتصارعة، قال الصوت:
أغمض مقلتيه لفانية، وعاد يرمق صاحب الصوت، وأن علم ماهية صاحب الصوت من مجرد مسمعه، فتلك ذكره من خلايا عقله المشوش، وصوت الرجل هو للمقدس الراحل، فقد تعرف علي المقدس في بلدة ما بين الأبراج الخمسة خلف سلسلة جبال (هوريا) في أيام شباب المقدس، الاثنين ومنذو ذلك اللقاء تقسمه نفس الولع، ونفس الشغف بالسفر والترحال وحب المغامرة، وتحديدناً البحث عن الأمور الغريبة و القديمة، والمجهولة وهي تلك المعروفة بكلمتين: وهما السراب و الأسرار.
ومنذو ذلك اللقاء أصبحوا رفقين مقربين حتي أخذت يد الغادر المارق رفيق دربه.
أقترب منه رفيقه الراحل وقال:
فكر(باتريك) وهو يرمق مجسم الأثر الهرم الذهبي بأقدام الجذور في قاعدته، وقطعة البلوري دائرية الشكل المحفور في عمق منتصفه، وتلك النقوش والرموز و الحروف القديمة المحفورة اللمعة علي حوافه، اللعنة لا يفترض أن يظهر هذا الآن، أنه ليس من هنا. وعاد (باتريك) يسأل نفسه: ولكن الغريب كيف ظهر هنا.
قال(باتريك): وهو يقترب من المجسم الهرمي حيث تنبعث منه رائحتين القوة واللعنة.
لمح الغضب العارم على وجه الأخير، وأن استحالت كلماته الأخيرة ألي دماء حمراء كنهر من الخمر تجري من فمه، ويسيل من مقلتي عيونه.
وعاد عقل(باتريك) بغتة ألي أرض الواقع، الغرفة، الشرفة ، الكرسي، الشموع تزوب، والوحدة تقتله، والموتى العابثين في كل الأماكن، فكر ورأس أحد الموتى تتأرجح كالبطيخة على طرف الشرفة:
اللعنة على كوابيس الأحلام الحية، فهناك شيء ما حدث جعل هذا العالم يتغير.
أنها يشعر بذلك في الماء الذي يشربه، و في الهواء الذي يستنشقا، عينه تهتز، قلبه يرتجف، وعقله يدوي، وذراعيه ترتعدان، وساقيه لم تعد تحمله، وهناك شيء لم يعمل له حساب مسبقناً، الا وهو الخوف، وهو يشعر بها الآن.
الليلتين الأخيرتان تنقضيان وتذوبان كالشموع تماماً.
وهولا ينام، والطعام لم يحمل أي طعم، حتي أن الماء نفسه لم يعد يروي ضمره كالسابق، حمل الشموع، وهابت الريح لهبها فتراقصت شرقنا وغربنا حيث وضع شمعدان الشموع الحلزوني على طرف الشرفة، كان هناك كتاب عتيق يرقد فوق منضدة خشبية ذات أقدام نحاسية الصنع، وشكلها على هيئه زهرة (روترس).
و(الروترس) ما هي الا زهرة من أزهار (ذات الشعر الأحمر) التي كانت تضعها في فم من تقتلهم، وهي كلمة قديمة من لغة الأجداد وتعني حرة الروح، ويقولون عنها الفلاحين بأن تلك الزهرة الجميلة في الأصل تتفتح أوراقهاً علي ضوء شبحي أزرق يجسم علي خلفية سماء(حقول القمر)، هناك حيث تجاور تلك الحقول البديعة، (غابة الأحرار)، و(الجبال الطويلة)، و(غابة الحياة)، و(سمسيل القديمة).
رمق(باتريك) أبراج عاصمة الدولة، حيث تضيئ من الأعلى كمصابيح مليئة بالذباب الناري، وتمسك بحائط الشرفة أذ شعر بغتة بدغدغات تسري أسفل أقدامه، وألم في راسه جعل العالم يميل ويميل، ومعدته تستعد لتخرج ما فيها في أي فانية، أنه يخشي المرتفعات، منذو أن سقط من أعلى شجرة الجميز الضخمة، عندما كان في الخامسة، حينها كان يلعب مع شقيقه (أربين).
ففي ذلك اليوم الغابر البعيد، كان الجو كعاصفة من وهم كظلال ورماد القسطل[3] الترابية المليء بالحصى. والتي ملئ فضاء الصحراء، كأن قتال مرعب يخاض الآن بين الصخر و الرمل، كان هو وشقيقه ذهبين للصيد، وكان يحمل حقيبة أغراض الصيد، لشقيقه(أربين) كتفين عريضين وشعر أسود ورثه من أبيه، وقوة معصمين تعادل الصخر، قال وهو يشير ألي شجرة الجميز:
وحينما صعد أرتجف أقدامه وسقط وكسر قدمه وذراعه، ولم يعد يصلح ليكون فارس متجول، او قاسي أثر، أو مدل، أو تابع ، ولا حتي معرج ولا حاجي، ولكن المعالج(حظراظ) الغريب، والذي كان يشرف علي علاج مرض السيدة والدته النادر، قال له:
وقد وصل ألي ما هو أبعد من العلوم، وصل ألي أن هرب من الجميع.
وقد أستقر في نهاية المطاف في بلاد المقدسين.
يسكن(باتريك) أمام أحد البحيرات الصغيرة المصنوعة علي يد مهندس العاصمة (رفريوس) ولكن حينما تراها تظن بأن قطعة طبيعية من جنة الرب في حكايات أبناء الرمل والصخر والنار.
ولكنه في الدور الأرضي.
(سينسار) هو التحريف المتعمد لأسم السير النبيل سين أبن السيدة (سيريس) الشومانية المولد والأصل، والذي كان الشقيق الأصغر والغير مقدس للمقدس (آيسومينس)، وقد ولد السير(سين) بعد شتاء واحد من زواج المقدس (آرياس) بالسيدة(سيرين)، وبعدها بثلاثة فصول، قرر (آرياس) منح كبير السيد (جركوم) قطعة أرض علي حدود الدولة بجوار أرض رقصة المغيب، وتلك الأرض صرعان ما ستكون ملجا للمقدس الهارب، ثم ستصبح العاصمة بعد صراع كهنة المقدسين مع حبيب (ميرين) ذات الشعر الأحمر، ذلك المقدس الذي غير شكل دولة المقدسين ألي الأبد.
سحب الحورى (باتريك) كرسي مصنوع من الخشب المطلي بالأسود، والمطعم بقطع صغيرة من الحديد والنحاس علي شكل أزهار(النهر المقدس)، وجلس عليه بالقرب من حدود الشرفة، وقد راح لهب الشمعة في الترنح مع الريح، وما بينهم رقد الكتاب العتيق قابعنا فوق سطح المنضدة كأسد كأسر جاسم منتظر.
همس بأنشودة حفظها، وهو يرمق السماء باحثن عن أي نجم يضئ تلك الظلمة التي مكثت فوق عاصمة المقدسين .
الليالي فانية، والنجوم فانية، وحتي الأجساد فانية، روحي الحرة فقط هي الباقية، سأحلق بها نحو دربي الأخير، هناك حيث تستقبلني ريح السماوات البديعة وشمس الربيع الأبدي هناك في أرض الرب الخالدة،
تعمن وتعمن في الظلام، ولكن السماوات خالية من أي نجم، مجرد نور، مجرد أمل، الشرفة الشرقية التي اقتادوه اليها، كانت تجعله يرمق العاصمة بالكامل من الأعلى. أنها موحشة ، أمامه مجلد ضخم لدوق يسمي: (رخمسوس ترميسوس الخوار ريسيس) الأكبر، ويحمل عنوان [أسرار الممالك الفانية] وفيها يرصد الدوق ممالك البشر القديمة التي انتهت، أما علي قوة طبيعية، أو قوة غير طبيعية.
[مملكة الأنهار الخضراء تم محوها علي يد الغازي الأكبر راكوك ألمين سيد مملكة العتيليس الواقعة خلف تلال الصخور في عصر رجال البحر].
همس مجددا بأنشودة:
هناك سأسمع همسات المحبين، وترانيم الداعين، وسراب الخيالات المتزامنة بلقاء الأعلى الجالس علي عرش الكون، صوته العظيم يتردد في الريح، ألحانه تتراقص في الماء، ثماره الطيبة تنبت في الأشجار، وشمسها وقمرها يضيئه ظلمة سماء العالم كل نهار وكل ليل.
والسجن الموجود فيه الآن يدخل إلى نفسه أحساس بالجفاف الصلب، رغم فخمت المكان الغير طبيعية ، إلا أنه لن يفعل ما طلبه المنقلب المارق(سسميس)، فكر(باتريك) بحزن: ” القصور للملوك أيها المارق الخائن، وأنا لست ملك، وأنت لست مقدس، ولن تكون كذلك، فهذا السر لن يجعل منك مقدس، لتسكن الرحمة قلوب ضعفاء شعب المقدسة الذين سيعرفون هول الرجس القادم “.
أبنتي المقدسة (بيراميس) أنها الآمل والملاك ،الذي يرفض كل من فعله المنقلب (سسميس) السم القريب،
يوم
من يزرع الموت لا يحصد غير الموت يا قاتل الأقربين،
الشبح حي فقط في العقول المريضة،
ملعون أنت ملعون تردد الكلمة في الأفق وحلقت بذكريات راحلة.
أمامه جلس معلمه أشيب الشعر ، حيث قال بخيال مسمعه:
رد في تعب يكيل له ويأس يتملك أعماق قلبه:
قال الأشيب بسخرية:
وأنت كذب في الرد، قال الأشيب بمكر.
لقد كذب لدرجة أنها صدق الكذب.
ثم قال بخبث وهو أصابع يدها المقطوعة.
ثم أكمل بنظرة ثقة:
أجاب شبح الأشيب بوجه غاضب:
ثم بداءة طيف الأشيب يتلاشى في الفراغ حتي اختفاء.
ولكن الكلمة الأخيرة راحت تتردد :
بالــــــــــــــــــــعار بالـــــــــــــــــــــــــــعار بالـــــــــــــــــــــــــــــــــــــعار.
العار كلمة تثقل قلبه، سمعها من أبيه وأخيه، وصديقه، ومعلمه، لقد خذل العالم بعد أن خذل نفسه.
جلب لها الحارس مجموعة من أعشاب البحر ، علي الأقل سيخلد لنوم أخيرنا.
قد بداءة أعشاب البحر في مفعولها، ولكنه نام علي حلم وأستيقظ علي كابوس، نسي كل تفاصيله، ولكن قلبه راح يدق ويدق بلا توقف.
في صباح اليوم الثالث لمحبسه دلف اليه حارسان ضخمان لدرجة أنهم لم يستطيعوا دخول غرفة البرج، أحدهم يسمي ريلون العملاق والآخر يسمي (صامويل) الضخم ويلقب أيضاً بقرن الخرتيت المكسور، وكان يتقدمهما حارس اعلي رتبة يسمي (ميكليش)، وهو شخص نحيف لم تمنحه درعه الذهبية أي شيء لتخفي نحفته اللافت للنظر، وما زاد ما جعله كذلك هو طوله الفارع، شبها العجوز بشجرة خاوية يلطمها خريف ما بعد الشتاء،
أصرخ أصرخ وأصرخ
الجرس في العقل والعقل يدنو، والرؤوس تصرخ وتصرخ دون، قاتل، ضن، قاتل، دون، منقلب، ضن، انتقام، دون موتي.
باسم الرب أصرخ، حدادنا، حدادنا، حدادنا، الويل علي الجميع ، ملطخ الدماء يجلس علي روح سيده، العار علي بلدة المقدسين في منبع عين الطائر المقدس، أنهم أتباع الملعون(كينوموس)، وليس (قاي) المعظم و(أوريس) و (ريسوس)، و(بيريس)، و(ميرديس) الحبيب ذو سيرة الشعر،
العار علي معاشر من ترك الحق للباطل،
[1] المهفان: رجل الدين في بلاد(هوريا).
[2] الفاراك: تعادل مستشار او حكيم.
[3] القسطل: هو الترابة المرتفع في الهواء, والناتج عن معركة محتدمة. وقد تم أستخدمها في قصيدة (حكم سيوفك) للشاعر العربي: عنتر بن شداد.
(2)
الهروب
أرسل(ميدروف) حياة الحارس اللعين لمقبرة الجحيم، حينما حاول قتله أثناء تظاهره بالنوم.
ثم قال محذرناً للحارسين، حينما دلفوا لداخل الزنزانة:
كان الدم السائل يقطر من المسمار الصلب في قبضته اليمين، وخيوط حمراء كالجذور تسيل علي السلسلة الحديدية التي تقيد معصميه، رد الحارس الضخم مقطوع الأذن، وهو يظهر أسنانه الأمامي المكسورة حينما سحب سيفه.
ثم أنقض علي(ميدروف) بسيفه الطويل، ولكن الأخير تفاده سيف الحارس الأول، وبحركة سريعة مفاجئة ركل الحارس الثاني القصير بدلو ملئ بالفضلات القذرة، فانتشرت رائحة البول العفنة في أنحاء الزنزانة، وأنقض عليه مسددا لكمة حديدية علي فكه الأيسر، قبض علي المسمار الصلب وسدد عدد ضربات متتالية في بطن الحارس الذي أخذت الدماء تنهمر منه بلا توقف، ولكن القصير تماسك وحاول سحب سيفه القصير من غمدة بعدما القاء بالمشعل، ولكنه لم يتمكن من سحب نصف سيفه، حينما بادره(ميدروف) بالمزيد من الضربات القوية المتتالية والتي تحمل معني الموت الصلب، حتي ترنح الحارس وسقط جسده ميتن علي أرض، بينما أخذت الدماء تنتفض للأعلى كفوهة بركان.
لوح مقطوع الأذن بسيفه في ظلمة الغرفة التي ابتلعت الموجودات من الأعلى علي ضوء المشعل الخافت الذي أخذا يتراقص ويخفوا شيء فشيء، سيفه يدور في دائرة حادة مرت بجوار راس (ميدروف) حيث أضاع المسمار، أحسن بالهواء الهائج يحمل رائحة الموت، لقد تعودت مقلتيه علي ظلمة الزنزانة، وهذا الوهج الخافت كان يكفي ليرمق ذو الأذن المقطوعة، من عاش في ظل لا يخشي الظلام، تحسس الأرض حيث عثر علي سيف ضحيته الثانية، وكالهواء علي سطح الماء، صرخ مقطوع الأذن بغتة حينما ولج معدن السيف بين ضلوعه، فخارت عضلاته وأسقط السيف مجبرنا.
كان جسد(ميدروف) بعدها ببرهة يرتعد بشدة، ليس من فرض القتال الذي خاضه مع الحراس، بل كلما تذكر كل تلك الأحداث المتعاقبة، والتي حدثت لها في اليومين الماضيين، رفع المشعل فبداء نورها يهيج ويهيج، وعلي وهج خليط أضواء النار المتباينة ما بين الصفراء والبرتقالية والحمراء، رمق وجه الحارس قصير القامة-وهو يتمدد علي أرضية الزنزانة بعيون مفتوحة مطفأة جامدة كالصخر تنظر للأعلى مرغمتنا، أنها لا يتذكر من يكون هذا الحارس بالضبط، ملامحه غريبة بشرته خمرية، أو هكذا ظن، ولكن بين حاجبية نقش أسود دائري ترقد فيها عين مفتوحة.
لقد رمق هذا الرمز من قبل، ولكن لا يتذكر أين، ربما في كيران، أو جماعات غابة الفجر، أو ربما هذا من خيالات أحلام اليومين السابقين، لقد اعتادت مقلته أن تحفظ الوجوه الذين يقابلها علي عكس أسماهم، فكر(ميدروف) وهو يحاول تذكر وجه الحارس: ربما هذا (أولفر) القصير أو(ديروس) الأقصر منها، ولكنه يعرف الأثنين بالتحديد، وخصتن (أولفر) القصير ذو العين المشقوقة، لا يهم، المهم بأنه تخلص منها الآن، علي الأقل سيعرف الآن الجميع واحد منهما بشكل صحيح.
كان ليكون ميتن اليوم لولا ذلك التحذير، تذكر ذلك الصوت المحذر في ليلة الأمس، لقد سمع أحد يهمس له من آلا مكان:
كان حينها يغمض مقلتيه، حين اقترب وهج مشعل يتراقص من النافذة الصغيرة لباب الزنزانة، ثم تدحرج مسمار طويل من الصلب من أسفل عقب باب الزنزانة، لوهلة شعر(ميدوف) بأنه في حلم، ولكنه لم يعد يفرق بين الحقيقة، والخيال حتي أمسك المسمار الصلب البارد.
رمق(ميدروف) المسمار الملطخ بالدماء، كما أن لطخت الدماء معصميه القويان، وراحت قطرات الدم تتساقط علي ضوء المشعل الخافت بالحمرة ثم البرتقالي، ثم الصفراء، ضوء مهتز، وقد أخذا هذا الضوء يتراقص، حيث كان المشعل الذي القها الحارس يقاوم شبح الإطفاء من علي الأرض المغطى بالقش المغمور بمياه البراز الذي يتسرب من مجري الصرف المجاور من موقع الزنازين العتيقة، فكر(ميدروف) وبركة الدماء أسفل الحارس تتوسع وتمتزج بالبول والبراز والقش المبتل: (الدماء في الحلم)، أنه لم يجد غير الإطاحة بالحارس القصير آلا في سبيل الهرب، (الدماء في الحلم)، فكر مجددا، وهو يخمد نيران المشعل في بقعة من مياه الصرف القابعة علي أرضية الزنزانة من الخارج.
أنه لم ينام منذو مات مقدسه، لقد تسبب في قتل المقدسة الأعظم، وأيضا أبنها ووريث العرش المقدس-المقدس(سنيس)، وكذلك رفيقة(أوميك) الضخم، و السيد المدون (سيستمينور)، ولكنه لا يتذكر أي شيء.
نعم لقد تسبب في القتل، وليس هو من قتلهم- ولكن لماذا قال (ردروس) الأصلع العجوزهذا، و(مينكيس) مقطوع الأنف كذلك ، و(جريوس) راس الدب، و(كرمتوف) سيف المقدس صديقه واخها، جعله التفكير في الشخص الأخيرة بالتحديد يبدو كأحمق أمام نفسه، “أخها”، كيف تمكن من فعل هذا به، كيف يتجنه عليه بتهمة كهذه، وتردد الكلمة مجددا، ومجددا “أخها”، “أخها”، “أخها”، “أخها”، في الفراغ الممتد حتي حلقت في الأفق البعيد.
فكر: ((كيف لا أتذكر)).
ولكن كلما يتذكر ماحدث هناك عن المقبرة، يشعر بصداع قوي يكاد يقتلع عقلة من داخل الجمجمة.
اشتعل الغضب في عروقه حيث أخذا يمنع نفسه من قتل حرس أخر ظهر له للتو، حيث قبض علي عنقه من خلف البوابة الفاصلة بين الزنزانة وطريق الخروج، قال الحارس البدين (مريانوس) بصوت متقطع، وقد بداء زرقة الموت تحوم علي وجهه:
ولكنه لم يجد سوء أن تلقي رأسه ضربة في الحديد، فسقط علي الأرض، سحب (ميدروف) سلسلة المفاتيح من الحارس البدين، وعبر البوابة، ولكنها لم يسلك طريق الخروج المعتاد، بل سلك طريق غرف الإعدام .
غرف الإعدام-القتل- الموت_ لطالما كره كل شيء يتعلق بالموت، فالموت أختطف منه كل من أحب، معركة الصخور العظيمة كانت لا تمت للعظمة بصلة، فاز بها عمه (شيليس) فقط بكرسي أراضي البحار والصخور، وخسر الجميع كل شيء، تسلل من سلاسل المقابر القديمة الي الأنفاق الجماعية حيث الكثير من عظام أجساد المحاربين الأصلين التي تم جمعها في دائري العظام أسفل شعلة الحياة، ومن الأنفاق الجماعية وقفت الأبواب الحديدية الصداء الرخو البالية كأنها ظل رجل، وبدفعة عادية أستحال الحديد الصداء الي فتات من المعدن المتكسر، في الخارج وجد نفسه في نفق طويل قاضه الي بوابة من دون قفل، فكر وهو يعبرها: من يغلق علي الموتى الا الأغبياء، فالموتى لا يشعرون بالخوف من أحد.
كان قد وصل الي أسفل مبني ما، عرفه علي الفور بعدما سلك بضع خطوات، أنه في دار الجناز.
وعند المدخل السفلي المنسي لدار الجناز، وقف(ميدروف) أمام رسم عظيم للوحة المقدس بيريس ورقصة البحر الأرجوانية، كانت اللوحة تصور المقدس بيريس يقف فوق قمة جبل أبيض، وأمامه اندفعت موجة غاضبة من البحر علي شكل امرأة عملاقة ذات شعر ارجواني ساطع كالشمس.
تجلت الي(ميدروف) حكاية المقدس بيريس مع رقصة البحر، كان بيريس من المقدسين الذين يعلمون علم المستقبل ويتنبؤون بما سيحدث، وحينها حلم بأن أرجوانية المغيب ستاتي ألي البحر وترقص رقصة الغروب، وزوجتها وأبنتها عائدون من جحيم (دارشا) ألي الميناء القديم، لذلك صعد بيريس أحد الجبال التي سميت لاحقا باسمه حيث رمق من الأعلى الغروب الأرجواني مع زرقت البحر الذي سيبتلعه لاحقا، وأخذا ينادي باسم سيدة البحر التي لا يعرفها غير من يصل ألي خارج حدود العالم، فظهرت علي هيئة طيف سيدة عملاقة شعرها من شفق الغروب الأرجواني وبشرة جسدها مزيج من الأزرق والسماوي، لون السماء والماء، وطلب منها رحمة الرحيم، ولكنها أجابت بأنها سترحم من يجري فيه دم المقدسين، ولكن زوجتها كانت دارشية وهناك يعبدون الآلهة الثلاث: آلة اللهب وآله الحجر وآله الرماد، والرقصة بالتأكيد ستعصف بها، ولكنه قال بأنها سيرقص معها، مقابل العفو علي روحها، روح مقابل روح، وفي النهاية غرق المقدس بيريس في نهرها المعروف باسم نهر بيريس وتلك كانت العدالة الأرجوانية، وحتي الأن تأتي العواصف الأرجوانية لترقص في مغيب الشمس، ويفضل البحارة عدم الأبحار في غروب شمس بحر بيريس.
في ذكرى لمقدسه جالت بخواطره .
حيث غرق الرجل الكهل في عوقة الأشباح عند شجيرات مقابر الخريف يرتدي البني ويقف عند شاهد قبر المحارب الذي لا يحمل أسم، قال المقدس:
يسمه بلا أحد او المجهول وبرغم ذلك ذكره التاريخ علي أنه من أنقذا بلاد المقدسين في زمن غزو أبناء العقارب و السموم، يقول المؤرخين بأنه أبن مزارع وفلاحة ويقول عنه آخرين بأنه أبن طين خرج من الأرض وهناك من يقول بأنه جاء من البحر وحلق كطائر المساؤ في السماء
لكي تعيش يجب أن تموت وأنت حي، وهو الآن مات-ومات- ومات، لقد نال منه الموت مرات ومرات، فكر وقد رمق جثمان مقدسها يركض فوق طاول خشبية :اللعنة علي الموت يسلب من الرجال كل الرجولة.
كانت الشموع تتجدد كلما دخل أحد الأشخاص، ولكنه بعد مرور بعض عوقات حل الليل وبداءة العطور والأبخرة في الزوال تدريجيا من قاعة الموتى، وبداء (ميدروف) يقاوم شبح النوم الذي هطل عليه حينما غطت الظلمة المكان بعد انطفاء ضوء أخر مشعل، قام مرة حيث كاد يسقط راسه من علي كتفيه، ومرة انفرجت مقلتيه بغتة بعد فنية من رحيله لعالم الدماء، ولكن جسده أستسلم للنوم، و وجد نفسه في حلم لم يدرك متي ولجها فيه.
هناك السماء زراق صافية كموج بحر البيضاء.
أنه الربيع البعيد الذي يذكرها من سنين ما قبل حرب الخريف، الأشجار الخضراء تدل علي هذا، كان هناك يجلس أسفل شجرة الدردار العظيمة، وقد زينتها أورقها الضخمة كأنها أجنحة عنقاء من أساطير خيال مغنين بلدة الأغاني، الواقعة عند البحيرة الأرجوانية، هناك كانت تبتسم كم هي عادتها في ثوب أخضر منفوش من التنورة وراحت تلف-وتلف-وتلف ، كأنها سمكة في خوض صغير لا بداية ولا نهاية لها، ولكنها جميلة من طفولتها جميله، فكر وهو تدور حول حوض الطيور، حبيبته من الطفولة والي-والي نهاية العمر الكثيب، (دوف)لا لا هذا لم يحدث القد تركها بعد الخريف، تركها ولنا يعود ألي هناك مجددا، هناك-هناك-هناك، تردد الكلمة في وعيه مرة- ومرة- ومرة، لقد أحبه لذلك تركها، لا لا لن يفكر فيها، ولا في ذكريات الخريف الأخير، الويل علي الأحلام، ولج للحلم بسرعة كالبرق، واستقبلتها عواصف الذكريات الدماء والموتى، همس لها-أتركها يا ملعون، أنت لعنة علينا، أتركها عليك اللعنة، وتركها، ولم يخرج من الحلم ألا علي صوت ما لرجل صاح بشيء جعلها يستيقظ بغتة.
فتح مقلتيه حيث نام المكان يغط في ظلام لا يكسرها سوء ضوء زرقة الليل وقمرها الشبحي الذي يتسلسل من نافذة قاعة الموتى الزجاجي،
في الصباح التالي كانت المقدسة (بيراميس) أول الحاضرين، المقدسة التي كانت ستتزوج من الأمير ميك لولا أن موت أختها، أبعدها عن حياة الدنيا، ومكثت من عامين في البلدة المقدسة مخلصة للأله قاي، وتتعلم من علوم الدوقات، المقدسة (بيراميس) فارعت الطول نحيفة ورشيفة كالسهم، وجهها أبيض مليح ملية بالبري والطيبة، وعينيها زمردين زرقاوين كأنهم من ماء نهر الطائر المقدس، وأن خيم الحزن علي صوتها حينما أشعلت أولي الشمعات حيث رددت:
ورقعت أمام الجثمان ساجدة، وأخذت تردد أشياء بصوت هامس من لغة لم يدركها (ميدروف)، وبعد انقضاء نصف الشمعة، كانت الأميرة(ريليس) قد جاءت وفي ظلها نصف دستة من الوصيفات، للأميرة الشابة طموح أكبر من إمكانياتها وغرور يكفي لغرقها، وكمية ألوان فوق طبقات مستحضرات التجميل المنقوشة علي جلدها جعلتها أقرب لحباتريك قوس قزح المذكور في حكايات أطفال بلدة الأغاني، وبرغم من هذا فهي جميلة، قوية مغرورة، قالت بتعجرف متوقع:
ضحكة:
لم ترد، فتابعت:
وجلست علي الدكة الخشبية وأغمضت مقلتيها وراحت تردد دعاء.
تلبث جسد(ميدوف) مكانه من هول ما سمعه كأنه قد أأصبح شيخ في نهاية العمر،
الخيانة
العالم في عوقة الصباح كان أشبه بظلمة غائمة أمام عينيه.
التي رقد فيها ليومين،
كان يرتدي الغباء الكهنوتية السوداء لأحد الدوقات الذين قتلهم عند عوقة الفجر وهو يهرب من مسكنهم الذي مكس فيها لليلة،
الدموع تجري فالأفق البعيد للمدينة الاوحادية في السكن الآخيرة للواحد
ميدروف بالتاج يهرب الي الجنوب لإنقاذ وريث المقدسين حيث أن عمه وبمساعدة يد الدولة السوداء.
كان حارس الملك الشخصي من أكثر من عشرين عام، وقد تم أتهامة الآن بقتلها، قال والشموع المعطرة تفحم المكان بروائح العطور المصنوعة،
رفع(ميدروف) السيف للأعلى وهبط عليه طائر أسود من السماء، فشعر بالألم في يده يدق ويدق، وطار السيف علي الأرض الحجرية، ليصداء بصوت أحتكاك المعدن بالحجر، نظر ليده وتحسسها بالآخرى، وقد بداءة الدماء تخرج منها في خيوط سائلة، رمق(ميدروف) الطائر الضخم يبتعد في ظلام الركن، ومنها جاء صوت ناعم حاد كالالم الذي ينبض في يده:
وبنظرة إلي يده، وأخرى إلي مصدر الصوت، حيث خرج من قلب الظلام شاب نحيف يرتدي الأسود وشعرها الأسود الطويل المجعد من الأطراف ليصل إلي كتفة الأيسر، وعلي كتفة الأيمن طائر أسود ضخم، أردف الشاب وهو يضغط بقدمة علي نصل السيف.
وبحرك سريع ألتقط السيف.
وكان ينظر إلي الجوال القماشي حيث يختب التاج المقدس.
سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.
نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.