الوصول الشامل في البيئة المعمارية

البيئـة المعمارية مـن العناصـر الرئيسـة التـي تكـوّن التفاعـل الدائـم بيـن الإنسـان والبيئـة المحيطـة، فالمؤسسـات العامـة غالبًا مـا تتكون من مبـان وتقـدم جـزءا مـن خدماتهـا بالاتصـال المباشـر مـع العامليـن أو الموظفيـن فـي هذه المؤسسـات؛ وبالتالي يتطلب هذا التفاعل المستمر إدراكا كافيًـا بملاءمة المكان ومكوناتـه مـع مختلـف الأفـراد بغـض النظـر عـن حالتهـم الجسـدية أو الصحيـة أو النفسـية؛ ولهـذا نسـتعرض فـي هذا المقال أهمية الوصول الشامل في البيئة المعمارية و بعض المبادئ التي تنبغـي مراعاتهـا عنـد تصميـم الأبنيـة العامة أو تشـييدها.

قائمة المحتويات

عقبات الوصول

على الرغم من التقدم الكبير الذي يشهده العالم في مختلف المجالات، فإن بعض الأشخاص في المجتمع ما زالوا غير قادرين على التفاعل مع البيئة المحيطة بهم جيدًا، ويعود جزء كبير من هذا التحدي إلى وجود عوائقَ مادية أو معنوية تحول دون قدرتهم على بناء اتصال فعال؛ ولهذا سعى البشر منذ زمن بعيد إلى ابتكار حلول تعينهم على تجاوز العقبات والمشكلات التي تعترض مسيرة حياتهم.

ولهذا دفعت معاناة بعض الأفراد في المجتمعات الإنسانية إلى التفكير جديًّا في وضع أنظمة وقوانين وأدوات تساعد جميع الأشخاص على الوصول إلى الأشياء من حولهم دون حواجز، وكان ذوو الاحتياجات الخاصة أكثر الفئات حاجةً إلى وجود وسائل تعينهم على التنقل والتواصل مع البيئة المحيطة والتفاعل معها، والتأثير فيها تأثيرًا محمودًا.

ولهذا فإن المفهوم العام للوصول الشامل يدعو إلى تصميم البيئة العامة التي يتفاعل معها الأفراد كالمباني العمرانية والمنتجات والخدمات المادية والرقمية لسدّ حاجات جميع المستخدمين.
وهذا يعني أن التصميم الشامل ليس مطلبًا خاصًّا بفئة محددة من الأشخاص وإنما يسدّ حاجات الجميع بلا استثناء، فإن كانت البيئة سهلة الوصول وقابلة للاستخدام ومريحة، بمراعاة الحاجات والقدرات المتنوعة لجميع الأشخاص في أثناء عملية التصميم، فإن ذلك سينتج عنه بيئة متكاملة يقل فيها العوائق والمخاطر غير المتوقعة.

 

أهمية تطبيق منظومة الوصول الشامل في البيئة المعمارية

تشير العديد من الدراسات والأبحاث إلى أهمية اتباع معايير التصميم الشامل في البيئة المعمارية كما يلي: «إن التصميم الشامل ضروري لـ (10%)، وداعم لـ (40%)، ومريح لـ (100%) من عدد السكان» (سعود، 2023).

والجدير بالذكر أن منظمة الأمم المتحدة أقرت «الاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقة» التي تشمل في البند التاسع «إمكانية الوصول» الذي يؤكد بوضوح أن الدول الموقعة –ومن بينها معظم الدول العربية- على هذه الاتفاقية وجب عليها أن تكفل إمكانية وصول ذوي الاحتياجات الخاصة على قدم المساواة مع غيرهم إلى البيئة العمرانية المحيطة (الأمم المتحدة، 2006)، إلا أن الواقع يبين غياب سياسات جادة لمعظم هذه الدول في الأخذ بمعاييرَ ومواصفاتٍ صارمة في تصميم المنتجات وعمليات التخطيط والتشييد للبيئة العمرانية.

ولهذا نوضح هنا بعض الجوانب التي توضح أهمية التصميم الشامل في حياتنا اليومية:
  1. التصميم الشامل يهدف إلى جعل المنتجات والخدمات متاحة لجميع الأشخاص بغض النظر عن قدراتهم.
  2. يقلل التصميم الشامل من التكاليف المالية والعمليات الإضافية والتعديلات في المستقبل.
  3. يُقلل من الحاجة لاستخدام التقنيات المساعدة للأشخاص ذوي الإعاقة بفضل توافقه معها.

المبادئ السبعة للوصول الشامل

إذ كان الوصـول الشـامل غايـةً يسـعى إليهـا القائمـون علـى المؤسسـات العامـة، فلابـد لنـا مـن الحديـث عـن  الخطـوات والإجـراءات اللازم اتباعهـا لتحقيـق هـذا الهـدف؛ ولهـذا ظهـر مفهـوم التصميـم الشـامل Universal Design ليقـدم لنـا سـبعة مبـادئ عامـة لتحقيـق الوصـول الشـامل إلـى البيئـات والمنتجـات والخدمـات علـى نحـو يناسـب جميـع المسـتخدمين.
إذ يذكـر مركـز التميـز فـي التصميـم الشـامل The Centre for Excellence in Universal Design أن مجموعة من المهندسـين المعماريين ومصممي المنتجات قـد وضعـوا المبـادئ السـبعة للتصميـم الشـامل سـنة 1997م، بقيـادة الراحـل رونالـد ميـس فـي جامعـة ولايـة كارولينـا الشـمالية، والغـرض مـن إرسـائهم لهـذه المبـادئ توجيـه تصميـم البيئـات والمنتجـات وفقًـا لمعاييـر محددة. ويمكـن بهـذه المبـادئ توجيـه المصمميـن والمسـتفيدين وتثقيفهـم عـن خصائـص المنتجـات وأكثـر البيئـات قابليـة لاسـتخدام مـن جميـع الأشـخاص باختـاف أحوالهـم الجسـمية والصحيـة.

 فنسـتعرض هنا المبادئ السـبعة العامة لتحقيق التصميم التي تحقق الوصول الشامل للجميع:

 

ممـا ذكرنـاه سـابقًا فإننـا نسـتعرض هنـا أبـرز الإرشادات اللازم اتباعهـا لتحقيـق المبادئ السبعة للوصول الشامل، وهي كما يلـي:

المبدأ 1: الاستخدام العادل (Equitable Use)

  • تجنب فصل المستخدمين على أساس أحوالهم الخاصة.
  • توفير وسائل متطابقة يسع جميع الأشخاص استخدامها قدر الإمكان.
  • يجب أن تتساوى أحكام الخصوصية والأمان لجميع المستخدمين با استثناء.
  • بناء تصميم جذاب ومقبول من جميع الأشخاص قدر الإمكان.

المبدأ 2: المرونة في الاستخدام (Flexibility In Use)

  • توفير خيارات متعددة في طريقة الاستخدام.
  • القابلية للتكيف مع الاستخدام.
  • إمكان استخدام اليد اليمنى أو اليسرى دون عوائق.
  • تعزيز دقة الاختيار والقدرة على الإحكام.

المبدأ 3: استخدام يسير وبديهي (Simple And Intuitive Use)

  • ترتيب المعلومات وفقا لأهميتها.
  • قابل للتوقع بطريقة استخدامه.
  • استيعاب طرق متعددة في القراءة والكتابة.
  • التخلص من التعقيدات غير المهمة.
  • إمكان الحصول على تعليقات المستخدمين وتعقيباتهم في أثناء الاستخدام وبعده.

المبدأ 4: سهولة استيعاب المعلومات (Perceptible Information)

  • ميز بين المعلومات الرئيسة وما حولها من تفاصيل.
  • اجعل المعلومات الأساسية والمهمة أوضح.
  • يجب عرض المعلومات بصيغ مختلفة، مكتوبة وتصويرية ومسموعة وملموسة وما إلى ذلك.
  • اجعل عناصر التركيبات سهلة الوصف على المستخدمين.
  • يجب أن توافق جميع العناصر التقنيات المساعدة التي يستخدمها ذوو الإعاقة.

المبدأ 5: تدارك الخطأ (Tolerance For Error)

  • عرض تحذيرات من الأخطاء المحتملة والمخاطر.
  • توفير ميزات تقلل نسبة الخطأ.
  • إزالة العناصر الخطرة والتقليل من التركيبات الأقل استخداما.
  • تجنب استخدام تركيبات تتطلب درجة عالية من اليقظة.

المبدأ 6: الجهد البدني المنخفض (Low Physical Effort)

  • قلل من الحاجة إلى تكرار إجراءات التفعيل والاستخدام.
  • اجعل المستخدم قادرا على استخدام جسده بالطريقة الملائمة له.
  • اجعل المستخدم قادرا على تفعيل العناصر بقوة معقولة.
  • قلل من الجهد البدني المتواصل للمستخدم.

المبـدأ 7: الحجـم والمسـاحة وطريقـة الاسـتخدام (Size And Space for Approach And Use)

  • اجعل إمكانية الوصول إلى مختلف الخدمات ممكنًا في وضعية الوقوف أو الجلوس.
  • اجعل العناصر المهمة بارزة للناس كيفما كانوا في وضع وقوف أو جلوس.
  • يجب أن يراعي التصميم حجم اليد وقدرتها على القبض.
  • يجب أن تتوافر مساحة كافية لاستخدام الأدوات أو التقنيات المساعدة.

مراحل تشكيل سلوك المستخدم

قبل التطرق إلى الإرشادات التي ينبغي الإحاطة بها عند تشييد المباني، ينبغي لنا أن ندرك أن فهم سلوك المستخدم هو ما يدفعنا إلى تصميم مبانٍ مستدامة وصديقة للجميع؛ ولهذا فيمكننا تلخيص أربع عمليات أساسية يقوم بها كل الأشخاص عند ارتيادهم للمبنى:

أولا: مرحلة جمع المعلومات

عند الشروع في تصميم مبنًى يجب النظر في كيفية استخدام الزوار لحواسهم لجمع المعلومات من البيئة المحيطة، مع التركيز على الاستقبال الفعال لتلك المعلومات.
يمكن تلخيص هذه العملية في عدة نقاط رئيسية:

  • التقاط المعلومات: يعتمد معظم الأشخاص على الحواس البصرية والسمعية واللمسية لجمع المعلومات ومن بين هذه الحواس يُحتمل أن يلتقط البصر معظم المعلومات التقاطًا أسرع.
  • تمييز العناصر: تحتاج التصميمات إلى تمييز عناصر البيئة المبنية بشكل واضح لجعل الاتصال الفعّال ممكنًا. من أكبر المباني إلى أصغر عناصر التحكم مثل لوحة مفاتيح المصاعد، وذلك بتمييزها عن خلفياتها ومحيطها بوجه عام.
  • المعالم المعروفة: توفير المعالم المألوفة للمستخدمين يساعدهم في تحديد مواقعهم والتنقل بسهولة. كالأجسام الثابتة والأصوات والروائح المألوفة، إضافةً إلى الإشارات اللمسية أو البصرية بوجودها في مواقع منفصلة ودائمة.
  • التوقع المنطقي:  يجب أن تكون التسهيلات المتوفرة في المبنى في مواقع منطقية ومتوقعة لتحسين تجربة المستخدمين.
  • الاستقلالية: يجب أن تتيح المعلومات المرئية والسمعية واللمسية المتاحة للمستخدمين البقاء مستقلين وتجنب الإجهاد والتوتر غير الضروريين.
  • المعرفة السابقة: توفير معلومات بتفاصيل كافية للمباني يساعد المستخدمين الجدد على التعرف على البيئة بسهولة.
  • تقنيات حديثة لذوي الإعاقة السمعية: يمكن استخدام تقنيات حديثة في المباني لتسهيل جمع المعلومات.
  • الإشارات اللمسية: توفير الإشارات اللمسية التي يمكن للمكفوفين وضعاف البصر التعرف عليها باللمس يساعد على تحسين تجربتهم. وأيضا توفير معلومات يمكن الحصول عليها باللمس بالأدوات المساعدة كالعصا البيضا .
  • الروائح: يمكن للروائح المميزة تقديم معلومات مفيدة للمستخدمين المكفوفين وضعاف البصر. فمثلًا قد تساعد روائح المحلات التجارية التي تبيع المنتجات العطرية على معرفة مكانهم في المركز التجاري.
  • الحماية من المخاطر: توفير الإشارات البصرية واللمسية والسمعية لتحديد المخاطر المحتملة يساعد على  تحديد موقع الخطر المحتمل في وقت كافٍ لاتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنبها.

ثانيًا: مرحلة معالجة المعلومات

في هذه المرحلة يعالج المستخدمون المعلومات الأولية المُدخلة بحواسهم المختلفة لتحديد ماهيتها ومقارنتها بالعناصر المختلفة.

ولهذا ينبغي إدراك ما يلي عند تصميم المباني العامة:

  • البيئة: قد تكون البيئات المعقدة بصريًّا، أو التي تحتوي على الكثير من التحفيز البصري أو السمعي، مزعجة للبعض، مما يؤثر  في إدراكهم للمعلومات وتقديرهم للمخاطر المحتملة على صحتهم وسلامتهم.
  • عناصر التصميم: الحفاظ على عناصر البيئة المبنية وتفاصيلها موحدة وهينة قدر الإمكان ويمكن توقعها لتكون سهلة الفهم للجميع .
  • التنقل: يجب تصميم البيئة المبنية بحيث تكون يسيرة ومنطقية قدر الإمكان مع تقديم المعلومات الكافية للسماح لجميع مستخدمي المبنى باتخاذ قرارات الوصول المناسبة.
  • الذاكرة: يعتمد معظم المكفوفين أو ضعاف البصر على الذاكرة للتنقل؛ لهذا فإن دمج المعالم والعناصر البارزة التي يسهل حفظها مهمة في أي تصميم، وهذا يحملنا على تأكيد أهمية أن تلبي البيئة المكانية حاجات الزائر أولَ مرة دون معرفة أو خبرة سابقة في المكان.

ثالثًا: مرحلة اتخاذ القرارات

 ما إن يدرك المستخدم ماهية المكان وتفاصيله والعناصر المحيطة به والعلاقات التي تربط الأجزاء المختلفة من المبنى، حتى يصل إلى مرحلة اتخاذ القرار المناسب للمضي نحو وجهته.
لهذا يجب النظر فيما يلي: .
  • الحركة بداخل المبنى: لن يسع بعض مستخدمي المبنى الحركةُ بمرونة لضعف القدرة على التحمل أو المشكلات الصحية المتعلقة بالحركة، وقد يحتاج بعضهم إلى استخدام أداة مساعدة على المشي أو كرسي متحرك ولهذا فإنهم قد يحتاجون إلى وقت أطول نسبيًّا.
  • الخدمات والتركيبات: قد يعاني بعض المستخدمين ضعفًا في اليد أو الذراع أو في المهارة فيصعب جدًّا إمساك الأشياء أو تدويرها أو استخدام أدوات تحكم صغيرة، لذلك يجب تصميم العناصر المادية بسهولة الاستخدام بقبضة يد واحدة.

رابعًا: مرحلة الاستخدام والتطبيق

يجب مراعاة بعض التفاصيل التي يواجهها المستخدمون عادةً عند ارتياد المباني، ويجب الحرص على أن هذه التفاصيل تناسب المستخدمين ذوي الاعاقة، إليكم الأمثلة التالية:
  • ذوو الإعاقة السمعية: يجب مراعاة توفير المساحات المناسبة التي تمكن ذوي الإعاقة السمعية من التواصل باستخدام لغة الإشارة، فلا بد من مسافة مناسبة بينهم للتمكن من رؤية بعضهم بعضًا والتواصل في أثناء المشي في ممر مثلًا، ويجوز ذلك على توزيع كراسي قاعات المحاضرات في المؤسسات التعليمية وغيرها.
  • ذوو الإعاقة الحركية: يجب مراعاة المساحات المناسبة للتنقل أفقيًّا وعموديًّا، ويجب مراعاة ارتفاعات الأشياء.
  • ذوو الإعاقة البصرية: لا بد من مراعاة المساحة التي يحتاج إليها المستخدم لاستخدام العصا البيضاء، واستخدام اللمس والسمع خصوصًا للتواصل مع المحيط.

في نهاية المطاف، يظهر الوصول الشامل في البيئة المعمارية كمبادرة أساسية لتعزيز المساواة والتضامن في المجتمعات. من خلال تضمين مبادئ الوصول الشامل في جميع جوانب التخطيط والتصميم المعماري، نضمن بناء بيئات تعمل لصالح الجميع، وتعكس التنوع وتقدم حلولًا مبتكرة لتلبية احتياجات جميع أفراد المجتمع بكفاءة وفعالية.

Picture of amira shokry

amira shokry

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شارك المقال

إقرأ أيضا

منصة الكتابة

سنساعدك في تحويل أفكارك إلى كتب ملهمة، حيث تنبض الحروف بالحياة وتصبح رحلتك مع الكلمات تجربة فريدة.

نضع بين يديك مجموعة من الأدوات التي تساعدك في رسم حكاياتك وأفكارك لتجعل من طموحاتك قصصًا تُروى وأخبارا لا تنسى.